نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

الثلاثاء، 7 فبراير 2023

رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري و رسالة ابن تيمية عند مداهمة التتار لأرض المسلمين

 

رسالة إلى أهل الثغر

رسالة إلى أهل الثغر

لأبي الحسن الأشعري

قال السيد الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري البصري رحمه الله

الحمد لله الذي حبب إلينا التمسك بالسنن الهادية وجنبنا سبل البدع المردية وكنف قلوبنا بثلج اليقين وأعزنا بسلطان الدين وجعلنا لرسوله متبعين وبإمامته معتصمين ووهب لنا من أنس الجماعة ما زالت به عنا وحشة الشذوذ والبدع حمدا نحوز فيه شرف طاعته ونستمري به جميل مواهبه وصلى الله على محمد نبيه الداعي إليه والسفير بيننا وبينه الذي أيده الله تعالى بآياته وقطع دواعي الشبه فيه لمعجزاته حتى أنهج السبيل إليه ونبه على ما في أفعاله من وجود الأدلة عليه بأوضح بيان وأظهر برهان حتى غاض الباطل خاسئا حسيرا وأضاء الحق غالبا منصورا فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وعلا بالحجة

أما بعد أيها الفقهاء والشيوخ من أهل الثغر بباب الأبواب حرسكم الله بسلطانه وأيدكم بنصره

فقد وقفت على ما ذكرتموه في كتابكم الوارد علي بمدينة السلام من خير نعم الله عليكم واستقامة أحوالكم فأسرني وكثر لله تعالى عليه شكري ورغبت إليه تعالى ومجتهدا في تمام ما أولاكم وإسباغ نعمة علينا وعليكم وهو تعالى ولي الإجابة وحقيق لجميل الموهبة ووقفت أيدكم الله على ما ذكرتموه من أحمادكم جوابي عن المسائل التي كنتم أنقذتموها إلي في العام الماضي وهو سنة سبع وستين ومائتين ووقوع ماذكرته فكم فيها الموقع الذي حمدتموه وعرفتم وجه الصواب فيه وإعراضكم عمن ألقى تلك المسائل واحتال في بثها عندكم وحمدت الله تعالى على حراستنا وإياكم من شبه الملحدين في دينه والصادين عن اتباع رسله وسألته أن يجعلنا وإياكم من المتمسكين بحبله والمقيمين على الوفاء بعهده إنه ولي ذلك والقادر عليه

ووقفت على ما التمستموه من ذكر الأصول التي عول سلفنا رحمة الله عليهم وعليها وعدلوا إلى الكتاب والسنة من أجلها واتباع خلفنا الصالح لهم في ذلك وعدولهم عما صار إليه أهل البدع من المذاهب التي أحدثوها وصاروا إلى مخالفة الكتاب والسنة بها وما ذكرتموه من شدة الحاجة إلى ذلك فبادرت أيدكم الله بإجابتكم إلى ما سألتموه لما أوجبه من حقوقكم والكرامة لكم وذكرت لكم جملا من الأصول مقرونة بأطراف من الحجاج تدلكم على صوابكم في ذلك وخطأ أهل البدع فيما صاروا إليه من مخالفتهم وخروجهم عن الحق الذي كانوا عليه قبل هذه البدع معهم ومفارقتهم بذلك الأدلة الشرعية وما أتى به الرسول منها ونبه عليها وموافقتهم بذلك لطرق الفلاسفة والصادين عنها والجاحدين لما أتت به الرسل عليهم السلام منها ولم آلكم وسائر من تأمل ما ذكرته نصحا لما يوجب على من حق نعم الله فيكم وأرجوه من نيل الثواب بإجابتكم مستعينا في جميع ذلك بالله تعالى وتوكلا عليه وهو حسبي ونعم الوكيل

اعلموا أرشدكم الله أن الذي مضى عليه سلفنا ومن اتبعهم من صالح خلفنا أن الله بعث محمدا إلى سائر العالمين وهم أحزاب متشتتون وفرق متباينون - منهم كتابي ويدعو إلى الله بما تعبد به في كتابه، وفلسفي قد تشعبت به الأباطيل في أمور يدعيها بقضايا العقول، وبرهمي تنكر أن يكون لله رسول ودهري يدعي الإهمال ويخبط في عشو الضلال، وثنوي قد اشتملت عليه الحيرة ومجوس يدعي ما ليس له به خبرة وصاحب صنم يعتكف عليه ويزعم أن له ربا يتقرب بعبادة ذلك الصنم إليه - لينبههم جميعا على حدثهم ويدعوهم إلى توحيد المحدث لهم ويبين لهم طرق معرفته بما فيهم من آثار صنعته ويأمرهم برفض كل ما كانوا عليه من سائر الأباطيل بعد تنبيهه لهم على فسادها ودلالته على صدقه فيما يخبرهم به عن ربهم تعالى بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة ويوضح لهم سائر ما تعبدهم الله تعالى به من شريعته وأنه دعا جماعتهم إلى الله ونبههم على حدثهم بما فيهم من اختلاف الصور والهيئات وغير ذلك من اختلاف اللغات وكشف لهم عن طريق معرفة الفاعل لهم بما فيهم وفي غيرهم بما يقتضي وجوده ويدل على إرادته وتدبيره حيث قال تعالى { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } فنبههم تعالى بتقلبهم في سائر الهيئات التي كانوا عليها على ذلك وشرح ذلك بقوله تعالى { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين }

وهذا من أوضح ما يقتضي الدلالة على حدث الإنسان ووجود المحدث له من قبل أن العلم قد أحاط بأن كل متغير لا يكون قديما وذلك أن تغيره يقتضي مفارقة حال كان عليها قبل تغيره وكونه قديما ينفي تلك الحال فإذا حصل متغيرا بما ذكرناه من الهيئات التي لم يكن قبل تغيره عليها دل ذلك على حدوثها وحدوث الهيئة التي كان عليها قبل حدوثها إذ لو كانت قديمة لما جاز عدمها وذلك أن القديم لا يجوز عدمه

وإذا كان هذا على ما قلنا وجب أن يكون ما عليه الأجسام من التغير منتهيا إلى هيئات محدثة لم تكن الأجسام قبلها موجودة بل كانت قبلها محدثة ويدل ترتيب ذلك على محدث قادر حكيم من قبل أن ذلك لا يجوز أن يقع بالاتفاق فيتم من غير مرتب له ولا قاصد إلى ما وجد منه فيها دون ما كان يجوز وقوعها عليه من الهيئة المخالفة لها وجواز تقدمها في الزمان وتأخرها بذلك إلى محدثها ومرتبها لأن سلالة الطين والماء المهين يحتمل من الهيئات ضروبا كثيرة لا يقتض واحد منها سلالة الطين ولا الماء المهين بنفسه ولايجوز أن يقع شيء من ذلك فيها بالاتفاق لاحتمالها لغيره

فإذا وجدنا ما صار إليه الإنسان في هيئته المخصوصة به دون غيره من الأجسام وما فيه من الآلات المعدة لمصالحه كسمعه وبصره وشمه وحسه والآت ذوقه وما اعد له من آلات الغذاء التي لا قوام له إلا بها على ترتيب ما قد حوج إليه من ذلك حتى يوجد في حال حاجته إلى الرضاع بلا أسنان تمنعه من غذائه وتحول بينه وبين مرضعته فإذا نقل من ذلك وحوج إلى غذاء لا ينتفع به ولا يصل منه إلى غرضه إلا بطحنها له جعل له منها بقدر ما به الحاجة في ذلك إليه والمعدة المعدة لطبخ ما يصل إليها من ذلك وتلطيفه حتى يصل إلى الشعر والظفر وغير ذلك من سائر الأعضاء في مجار لطاف قد هيئت لذلك بمقدار ما يقيمها والكبد المعدة لتسخينها بما يصل من حرارة القلب والرئة المهيأة لإخراج بخار الحرارة التي في القلب وإدخال ما يعتدل به من الهواء البارد باجتذاب المناخر وما فيها من الآلات المعدة لخروج ما يفضل من الغذاء عن وقت الحاجة في مجاري ينفذ ذلك منها وغيرذلك مما يطول شرحه مما لا يصح وقوعه بالاتفاق ولا يستغنى فيما هو عليه عن مقوم يرتبه إذ كان ذلك لا يصح أن يترتب وينقسم في سلالة الطين والماء المهين بغير صانع ولا مدبر عند كل عاقل متأمل كما لا يصح أن يترتب الدار على ما يحتاج إليه فيها من البنا بغير مدبر يقسم ذلك فيها ويقصد إلى ترتيبها

ثم زادهم تعالى في ذلك بيانا بقوله { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب }

فدلهم تعالى بحركة الأفلاك على المقدار الذي بالخلق الحاجة إليه في مصالحهم التي لا يخفى مواقع انتفاعهم بها كالليل الذي جعل لسكونهم ولتبريد ما زاد عليهم من حر الشمس في زروعهم وثمارهم والنهار الذي جعل لانتشارهم وتصرفهم في معايشهم على القدر الذي يحتملونه في ذلك ولو كان دهرهم كله ليلا لأضر بهم ما فيه من الظلمة التي تقطعهم عن التصرف في مصالحهم وتحول بينهم وبين إدراك منافعهم وكذلك لو كان دهرهم كله نهارا لأضر بهم ذلك ودعاهم ما فيه من الضياء إلى التصرف في طلب المعاش مع حرصهم على ذلك إلى ما لا يطيقونه فأداهم قلة الراحة إلى عبطهم وجعل لهم من النهار قسطا لتصرفهم لا يجوز بهم قدر الطاقة فيه وجعل لهم من الليل قسطا لسكونهم لا يقصر عن قدر حاجتهم لتعتدل في ذلك أحوالهم وتكمل مصالحهم وجعل لهم من البرد والحر فيهما مقدار ما لهم ولثمارهم ولمواشيهم من الصلاح رفقا لهم وجعل لون ما يحيط بهم من السماء ملاوما لأبصارهم ولو كان لونها على خلاف ذلك من الألوان لأفسدها ودلهم على حدثها بما ذكرناه من حركاتها واختلاف هيئاتها كما ذكرنا آنفا ودلهم على حاجتها وحاجة الأرض وما فيها من الحكم على عظمتها وثقل أجرامها إلى إمساكه تعالى لهما بقوله تعالى { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا } فعرفنا تعالى أن وقوعهما لا يصح أن يكون من غيره وأن وقوفهما لا يجوز أن يكون بغير موقف لهما

ثم نبهنا على فساد قول الفلاسفة بالطبائع وما يدعونه من فعل الأرض والماء والنار والهواء في والأشجار وما يخرج منها من سائر الثمار بقوله تعالى { وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } ثم قال تعالى { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } ثم نبه تعالى خلقه على أنه واحد باتساق أفعاله وترتيبها وأنه تعالى لا شريك له فيها بقوله { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } ووجه الفساد بذلك لو كان إلهين ما اتسق أمرهما على نظام ولا يتم على إحكام وكان لا بد أن يلحقهما العجز أو يلحق أحدهما عند التمانع في الأفعال والقدرة على ذلك وذلك أن كل واحد منهما لا يخلو أن يكون قادرا على ما يقدر عليه الآخر على طريق البدل من فعل الآخر أو لا يكون كل واحد منهما قادرا على ذلك فإن كان كل واحد منهما قادرا على فعل ما يقدر عليه الآخر على طريق البدل من بدل الآخرة أو لا يكون كل واحد منهما قادرا على ذلك فإن كان كل واحد منهما قادرا على فعل ما يقدر عليه الآخر بدلا منه لم يصح أن يفعل كل واحد منهما ما يقدر عليه الآخر إلا بترك الآخر له وإذا كان كل واحد منهما لا يفعل إلا بترك الآخر له جاز أن يمنع كل واحد منهما صاحبه من ذلك ومن يجوز أن يمنع ولا يفعل إلا بترك غيره له فهو مدبر عاجز وإن كان كل واحد منهما لا يقدر على ما فعل مثل مقدور الآخر بدلا منه وجب عجزهما وحدوث قدرتهما والعاجز لا يكون إلها ولا ربا

ثم نبه المنكرين للإعادة مع إقرارهم بالإبتداء على جواز إعادته تعالى لهم حيث قال لهم لما استكبروها وقالوا من يحيى العظام وهي رميم قل يحيها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم

ثم أوضح لهم ذلك بقوله تعالى الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون فدلهم بما يشاهدونه من جعله النار من العفار والمرخ وهما شجرتان خضراوان إذا حكت إحداهما الأخرى بتحريك الريح لهما اشتعل النار فيهما على جواز إعادته المياة في العظام النخرة والجلود المتمزقة

ثم نبه عباد الأصنام لهم على فساد ما صاروا إلى عبادتها مع نحتها بقوله تعالى { أتعبدون ما تنحتون } ثم قال { والله خلقكم وما تعملون } فبين لهم فساد عبادتها ووجوب عبادته دونها بأنها إذا كانت لا تصير أصناما إلا بنحتكم لها فأنتم أيضا أولى أن تكونوا على ما أنتم عليه من الصور والهيئات التي لم تكن إلا بفعلي وإني مع خلقي لكم وما تنحتونه خالق لنحتكم إذ كنت أنا المقدر لكم عليه والممكن لكم منه

ثم رد على المنكرين لرسله بقوله { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس وقال رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل }

ثم احتج النبي على أهل الكتاب بما في كتبهم من ذكر صفته والدلالة على اسمه ونعته وتحدي النصارى لما كتموا ما في كتابهم من ذلك وجحدوه بالمباهلة عند أمر الله عز وجل له بذلك بقوله تعالى { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين }

وقال لليهود لما بهتوه { فتمونوا الموت إن كنتم صادقين } فلم يجسر أحد منهم على ذلك مع اجتماعهم على تكذيبه وتناهيهم في عداوته واجتهادهم في التنفير عنه لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم وصدقه فيما يخبرهم لأقدموا على إجابته ولسارعوا إلى فعل ما يعلمون أن فيه توهين أمره.

ثم إن الله تعالى بعد إقامة الحجج عليهم أزعج خواطر جماعتهم للنظر فيما دعاهم إليه ونبههم عليه بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة وأيده بالقرآن الذي تحدى به فصحاء قومه الذين بعث إليهم لما قالوا إنه مفتري أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات أو بسورة مثله وقد خاطبهم فيه بلغتهم فعجزوا عن ذلك مع إخباره له أنهم لا يأتون بمثله ولو تظاهر على ذلك الإنس والجن وقطع عذرهم به وعذر غيرهم كما قطع موسى عليه السلام عذر السحرة وغيرهم في زمانه بالعصى التي فضحت سحرهم وبان بما كان منها لهم ولغيرهم أن ذلك من فعل الله وأن هذا ليس يبلغه قدرهم ولا يطمع فيه خواطرهم وكما قطع عيسى عليه السلام عذر من كان في زمانه من الأطباء الذين قد برعوا في معرفة العقاقير وقواما في الحشائش وقدر ما ينتهي إليه علاجهم وتبلغه حيلهم بإحياء الموتى بغير علاج وإبراء الأكمة والأبرص وغير ذلك مما قهرهم به وأظهر لهم منه ما يعلمون بيسير الفكر أنه خارج عن قدرهم وما يصلون إليه بحيلهم

وكذلك قد أزاح نبينا بالقرآن وما فيه من العجائب علل الفصحاء من أهله وقطع به عذرهم لمعرفتهم أنه خارج عما انتهت إليه فصاحتهم في لغاتهم ونظموه في شعرهم وبسطوه في خطبهم وأوضح لجميع من بعث إليه من الفرق الذي ذكرناها فساد ما كانوا عليه بحجج الله وبيانه ودل على صحة ما دعاهم إليه ببراهين الله وآياته حتى لم يبق لأحد منهم شبهة فيه ولا احتيج مع ما كان منه في ذلك إلى زيادة من غيره ولو لم يكن ذلك كذلك لم يكن حجة على جماعتهم ولا كانت طاعته لازمة لهم مع خصامهم وشدة عنادهم قد احتجوا عليه ذلك ودفعوه عما يوجب طاعتهم له وقرعوه بتقصيره عن إقامة الحجة عليهم فيما يدعوهم إليه مع طول تحديه لهم وكثرة تبكيتهم وطول مقامه فيهم ولكنهم لم يجدوا سبيلا مع حرصهم عليه وإذا كان هذا على ما ذكرناه علم صحة ما ذهبنا إليه في دعوته إلى التوحيد وإقامة الحجة على ذلك وإيضاحه الطرق إليها

وقد أكد الله تعالى دلالة نبوته بما كان من خاص آياته التي نقض بها عاداتهم كإطعامه الجماعة الكثيرة في المجاعة الشديدة من الطعام اليسير وسقيهم الماء في العطش الشديد من الماء اليسير وهو ينبع من بين أصابعه حتى رووا ورويت مواشيهم وكلام الذئب وإخبار الذراع المشوية أنها مسموة وانشقاق القمر ومجيء الشجرة إليه عند دعائها إليه ورجوعها إلى مكانها بأمره لها وإخباره لهم بما تجنه صدورهم وما يغيبون به عنه من أخبارهم ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى وإلى طاعته فيما كلف تبليغه إليهم بقوله تعالى { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } وعرفهم أمر الله تعالى بإبلاغه ذلك وما ضمنه له من عصمته منهم بقوله تعالى { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } فعصمه الله منهم مع كثرتهم وشدة بأسهم وما كانوا عليه من شدة عنادهم وعداوتهم له حتى بلغ رسالة ربه تعالى إليهم مع كثرتهم ووحدته وتبري أهله منه ومعاداة عشيرته وقصد جميع المخالفين له حين سفه آرائهم فيما كانوا عليه من تعظيم أصنامهم وعبادة النيران وتعظيم الكواكب وإنكار الربوبية وغير ذلك مما كانوا عليه حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة وأوضح الحجة في فساد جميع ما نهاهم عنه مما كانوا عليه ودلهم على صحة جميع ما دعاهم إلى اعتقاده وفعله بحجج الله وتبيانه لهم وأنه لم يؤخر عنهم بيان شيء مما دعاهم إليه عن وقت تكليفه لهم وإنما جوز فريق من أهل العلم تأخير البيان فيما أجمله الله من الأحكام قبل بروز فعله لهم فأما تأخير ذلك عن وقت فعله فغير جائز عند كافتهم ومعلوم عند سائر العقلاء أن ما دعا النبي إليه من واجهه من أمته من اعتقاد حدثهم ومعرفة المحدث لهم وتوحيده ومعرفة أسمائه الحسنى وما هو عليه من صفات نفسه وصفات فعله وتصديقه فيما بلغهم من رسالته مما لا يصح أن يؤخر عنهم البيان فيه لأنه لم يجعل لهم فيما كلفهم من ذلك من مهلة ولا أمرهم بفعله في الزمن المتراخي عنه وإنما أمرهم بفعل ذلك على الفور وإذا كان ذلك من قبل أنه لو أخر ذلك عنهم لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إلى فعله وألزمهم ما لا طريق لهم إلى الطاعة فيه وهذا غير جائز عليه لما يقتضيه ذلك من بطلان أمره وسقوط طاعته وهذا المعنى لم تجد عن أحد من صحابته خلاف في شيء مما وقف عليه السلام جماعتهم عليه ولا شك في شيء منه ولا نقل عنهم كلام في شيء من ذلك ولا زيادة على ما نبههم عليه من الحجج بل نصوا جميعا رحمة الله عليهم على ذلك وهم متفقون لا يختلفون في حدثهم ولا في توحيد المحدث لهم وأسمائه وصفاته وتسليم جميع المقادير إليه والرضا فيها بأقسامه لما قد ثلجت به صدورهم وتبينوا وجوه الأدلة التي نبههم عليها عند دعائه لهم إليها وعرفوا بها صدقه في جميع ما أخبرهم به وإنما تكلفوا البحث والنظر فيما كلفوه من الاجتهاد في حوادث الأحكام عند نزولها بهم وحدوثها فيهم وردها إلى معاني الأصول التي وقفهم عليها ونبههم بالإشارة على ما فيها فكان منهم رحمة الله عليهم في ذلك ما نقل إلينا من طريق الاجتهاد التي اتفقوا عليها والطرق التي اختلفوا فيها ولم يقلد بعضهم بعضا فيما صاروا إليه من جميع ذلك لما كلفوه من الاجتهاد وأمروا به

فأما ما دعاهم إليه من معرفة حدثهم والمعرفة بمحدثهم ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا وعدله وحكمته فقد بين لهم وجوه الأدلة في جميعه حتى ثلجت صدورهم به وامتنعوا عن استئناف الأدله فيه وبلغوا جميع ما وقفوا عليه من ذلك واتفقوا عليه من بعدهم فكان عذرهم فيما دعوا إليه من ذلك مقطوعا بما نبههم النبي من الدلالة على ذلك وما شاهدوه من آيات الدلالة على صدقه وعذر سائر من تأخر عنه مقطوع بنقلهم ذلك إليهم ونقل أهل كل زمانه حجة على من بعدهم من غير أن يحتاج أرشدكم الله في المعرفة لسائر ما دعينا إلى اعتقاده إلى استئناف أدلة غير الأدلة التي نبه النبي عليها ودعا سائر أمته إلى تأملها إذ كان من المستحيل أن يأتي بعد ذلك أحد بأهدى مما أتى أو يصلوا من ذلك إلى ما بعد عنه وجميع ما اتفقوا عليه من الأصول مشهور في أهل النقل الذين عنوا بحفظ ذلك وانقطعوا إلىالاحتياط في طلب الطرق الصحيحة إليه من المحدثين والفقهاء يعلمه أكابرهم أصاغرهم ويدرسونه صبيانهم في كتاتيبهم ليقرو ذلك عندهم وشهرته فيهم واستغناؤهم في العلم بصحة جميع ذلك بالأدلة التي نبههم صاحب الشريعة عليها في وقت دعوته واعلموا أرشدكم الله إنما دل على صدق النبي من المعجزات بعد تنبيهه لسائر المكلفين على حدثهم ووجود المحدث لهم قد أوجب صحة أخباره ودل على أنما أتى به من الكتاب والسنة من عند الله تعالى

وإذا أثبت بالآيات صدقة فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي عنه وصارت أخباره أدلة على صحة سائر ما دعانا إليه من الأمور الغائبة عن حواسنا وصفات فعله وصار خبره عليه السلام عن ذلك سبيلا إلى إدراكه وطريقا إلى العلم بحقيقته وكان ما يستدل به من أخباره على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة ومن اتبعها من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها ويدق الكلام عليها فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها والمعرفة بفساد شبه المنكرين لها والمعرفة بمخالفتها للجواهر في كونها لا تقوم بنفسها ولا يجوز ذلك على شيء منها والمعرفة بأنها لا تبقى والمعرفة بإختلاف أجناسها وأنه لا يصح انتقالها من محالها والمعرفة بأن ما لا ينفك منها فحكمه في الحدث حكمها ومعرفة ما يوجب ذلك من الأدلة وما يفسد به شبه المخالفين في جميع ذلك حتى يمكن الاستدلال بها على ما هي أدلة عليه عند مخالفينا الذين يعتمدون في الاستدلال على ما ذكرناه بها لأن العلم بذلك لا يصح عندهم إلا بعد المعرفة بسائر ما ذكرناه آنفا وفي كل مرتبة مما ذكرنا فرق تخالف فيها ويطول الكلام معهم عليها

وليس يحتاج أرشدكم الله في الاستدلال بخبر الرسول على ما ذكرناه من المعرفة بالأمر الغائب عن حواسنا إلى مثل ذلك لأن آياته والأدلة الدالة على صدقه محسوسة مشاهدة قد أزعجت القلوب وبعثت الخواطر على النظر في صحة ما يدعو إليه وتأمل ما استشهد به على صدقه والمعرفة بأن آياته من قبل الله تدرك بيسير الفكر فيها وانها لا يصح أن تكون من البشر لوضوح الطرق إلى ذلك ولا سيما مع إزعاج الله تعالى قلوب سائر من أرسل إليه النبي على النظر في آياته بخرق عوائدهم له وحلول ما يعدهم من النقم عند إعراضهم عنه ومخالفتهم له على ما ذكرنا مما كان من ذلك عند عودة موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وإذا كان ذلك على ما وصفنا بان لكم أرشدكم الله أن طريق الاستدلال بأخبارهم عليهم السلام على سائر ما دعينا إلى معرفته مما لا يدرك بالحواس أوضح من الاستدلال بالأعراض إذ كانت أقرب إلى البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة ومن اتبعهم من أهل الأهواء واغتروا بها لبعدها عن الشبه كما ذكرنا وقرب من أخلد ممن ذكرنا إلى الاستدلال به من الشبه ولذلك ما منع الله رسله من الاعتماد عليه لغموض ذلك على كثير ممن أمروا بدعائهم وكلفوا عليهم السلام إلزامهم فرضه

فأخلد سلفنا رضي الله عنهم ومن اتبعهم من الخلف الصالح بعد ما عرفوه من صدق النبي فيما دعاهم إليه من العلم بحدثهم ووجود المحدث لهم بما نبههم عليه من الأدلة إلى التمسك بالكتاب والسنة وطلب الحق في سائر ما دعوا إلى معرفته منها والعدول عن كل ما خالفها لثبوت نبوته عندهم ونبههم بصدقه فيما أخبرهم به عن ربهم لما وثقته الدلالة لهم فيه وكفتهم العبرة بما ذكرناه له وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع من الاستدلال بذلك على ما كلفوا معرفته لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه وإنما صار من أثبت حدث العالم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم

وإذا كان العلم قد حصل لنا بجواز مجيئهم في العقول وغلط من دفع ذلك وبان صدقهم بالآيات التي ظهرت عليهم لم يسع لمن عرف من ذلك ما عرفه أن يعدل عن طرقهم إلى طرق من دفعهم وأحال مجيئهم

فلما كان هذا واجبا كما ذكرناه عند سلف الأمة والخلف رحمة الله عليهم كان اجتهاد الخلف في طلب أخبار النبي والاحتياط في عدالة الرواة لها واجبا عندهم ليكونوا فيما يعتقدونه من ذلك على يقين. ولذلك كان أحدهم يرحل إلى البلاد البعيدة في طلب الكلمة تبلغه عن رسول الله حرصا عل معرفة الحق من وجهه وطلبا للأدلة الصحيحة فيه حتى تثلج صدورهم بما يعتقدونه وتسكن نفوسهم إلى ما يتدينون به ويفارقوا بذلك من ذمة الله في تقليده لمن يعظمه في سادته بغير دلالة تقتضي ذلك ولما كلفهم الله تعالى ذلك وجعل أخبار نبيه طريقا إلى المعارف بما كلفهم إلى آخر الزمان حفظ أخباره في سائر الأزمنة ومنع من تطرق الشبه عليها حتى لا يروم أحد تغيير شيء منها أو تبديل معنى كلمة قالها إلا كشف الله عز وجل سره وأظهر في الأمة أمره حتى يرد ذلك عليه العربي والعجمي ومن قد أهل لحفظ ذلك من حملة علمه والمبلغين عنه كما حفظ كتابه حتى لا ينطق أحد من أهل الزيغ على تحريك حرف ساكن أو تسكين حرف متحرك إلا تبادر القراء في رد ذلك عليه مع اختلاف لغاتهم وتباين أوطانهم لما أراده الله تعالى من صحة الأداء عنه ووقوع التبليغ لما أتى به نبينا إلى من يأتي في آخر الزمان لانقطاع الرسل بعده واستحالة خلوهم من حجة الله عليهم حتى قد ظهر ذلك بينهم وأيست من نيله خواطر المنحرفين عنه

وجعل الله ما حفظه من ذلك وجمع القلوب عليه حجة على من تعبد بعده بشريعته ودلالة لمن دعا إلى قبول ذلك ممن لم يشاهد الأخبار وأكمل الله تعالى لجميعهم طرق الدين وأغناهم عن التطلع إلى غيرها من البراهين ودل على ذلك بقوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } وليس يجوز أن يخبر الله تعالى عن إكماله الدين مع الحاجة إلى غير ما أكمل لهم الدين به

وبين النبي معنى ذلك في حجة الوداع لمن كان بحضرته من الجم الغفير من أمته عند اقتراب أجله ومفارقته لهم بقوله « اللهم هل بلغت »

فلو كنا نحتاج مع ما كان منه في معرفة ما دعانا إليه إلى ما رتبه أهل البدع من طرق الاستدلال لما كان مبلغا إذ كنا نحتاج في المعرفة بصحة ما دعانا إليه إلى علم ما لم يبينه لنا من هذه الطرق التي ذكروها ولو كان هذا كما قالوا لكان فيما دعا إليه وقوله بمنزلة اللغو ولو كان ذلك كذلك لعارضه المنافقون وسائرالمرصدين لعداوته في ذلك ولم يمنعهم منه مانع كما لم يمنعهم من تعنيته في طلب الآيات ومجادلته في سائر الأوقات ولكنهم لم يجدوا سبيلا إلى الطعن لأنه لم يدع شيئا مما تهم الحاجة إليه في معرفة سائر ما دعاهم إلى اعتقاده أو مثل فعله إلا وقد بينه لهم

ويزيد هذا وضوحا قوله « إني قد تركتكم على مثل الواضحة ليلها كنهارها »

وإذا كان هذا على ما رضينا علم أنه لم يبق بعد ذلك عتب لزائغ ولا طعن لمبتدع إذ كان قد أقام الدين بعد أن أرسى أوتاده وأحكم أطنابه ولم يدع لسائر من دعاه إلى توحيد الله حاجة إلى غيره ولا لزائغ طعنا عليه ثم مضى محمودا بعد إقامته الحجة وتبليغ الرسالة وأداء الأمانة والنصيحة لسائر الأمة حتى لم يحوج أحدا من أمته البحث عن شيء قد أغفله هو مما ذكره لهم أو معنى أسره إلى أحد من أمته بل قد قال في المقام الذي لم ينكتم قوله فيه لاستحالة كتمانه على من حضره أوطى شيء منه على من شهده إني خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي ولعمري إن فيهما الشفاء من كل أمر مشكل والبرء من كل داء معضل وإن في حراستهما من الباطل على ما تقدم ذكرنا له آية لمن نصح نفسه ودلالة لمن كان الحق قصده وفيما ذكرنا دلالة على صحة ما استندوا إلى الاستدلال وقوة لما عرفوا الحق منه

فإذا كان ذلك على ما وصفنا فقد علمتم بهت أهل البدع لهم في نسبتهم لهم إلى التقليد وسوء اختيارهم في المفارقة لهم والعدول عما كانوا عليه معهم وبالله التوفيق

وإذ قد بان بما ذكرناه استقامة طرق استدلالهم وصحة معارفهم فلنذكر الآن ما أجمعوا عليه من الأصول باب ذكر ما أجمع عليه السلف من الأصول التي نبهوا بالأدلة عليها وأمروا في وقت النبي بها

الإجماع الأول

واعلموا أرشدكم الله أن مما أجمعوا رحمة الله عليهم على اعتقاده مما دعاهم النبي إليه ونبههم بما ذكرناه على صحته أن العالم بما فيه من أجسامه وأعراضه محدث لم يكن ثم كان وأن لجميعه محدثا واحدا إخترع أجناسه وأحدث جواهره وأعراضه وخالف بين أجناسه وأنه تعالى لم يزل قبل أن يخلقه واحدا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا له الأسماء الحسنى والصفات العلا وانهم عرفوا ذلك بما نبههم الله تعالى عليه وبين لهم وجه الدلالة فيه على ما تقدم شرحنا له قبل هذا الموضع

الإجماع الثاني

وأجمعوا على انه تعالى غير مشبه لشيء من العالم وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله { ليس كمثله شيء } ويقول تعالى { ولم يكن له كفوا أحد } وإنما كان ذلك كذلك لأنه تعالى لو كان شبيها لشيء من خلقه لاقتضى من الحدث والحاجة إلى محدث له ما اقتضاه ذلك الذي أشبهه أو اقتضى ذلك قدم ما أشبهه من خلقه وقد قامت الأدلة على حدث جميع الخلق واستحالة قدمه على ما بيناه آنفا وليس كونه تعالى غير مشبه للخلق ينفي وجوده لأن طريق إثباته كونه تعالى على ما اقتضته العقول من دلالة أفعاله عليه دون مشاهدته

الإجماع الثالث

وأجمعوا أنه تعالى لم يزل موجودا حيا قادرا عالما مريدا متكلما سميعا بصيرا على ما وصف به نفسه وتسمى به في كتابه وأخبرهم به رسوله ودلت عليه أفعاله وأن وصفه بذلك لا يوجب شبهه لمن وصف من خلقه بذلك من قبل الشيئين لا يشبهان بغيرهما ولا باتفاق أسمائهما وإنما يشبهان بأنفسهما فلما كانت نفس الباري تعالى غير مشبهه لشيء من العالم بما ذكرناه آنفا لم يكن وصفه بأنه حي وقادر وعالم يوجب تشبهه لمن وصفناه بذلك منا وإنما يوجب اتفاقهما في ذلك اتفاقا في حقيقة الحي والقادر والعالم وليس اتفاقهما في حقيقة ذلك يوجب تشابها بينهما ألا ترى أن وصف الباري تعالى بأنه موجود ووصف الإنسان بذلك لا يوجب تشابها بينهما وإن كانا قد اتفقا في حقيقة الموجود ولو وجب تشابههما بذلك لوجب تشابه السواد والبياض بكونهما موجودين فلما لم يجب بذلك بينهما تشابه وإن كانا قد اتفقا في حقيقة الموجود لم يجب أن يوصف الباري تعالى بأنه حي عالم قادر ووصف الإنسان بذلك تشابههما وإن اتفقا في حقيقة ذلك وإن كان الله تعالى لم يزل مستحقا لذلك والإنسان مستحقا لذلك عند خلق الله ذلك له وخلق هذه الصفات فيه

الإجماع الرابع

وأجمعوا على إثبات حياة الله تعالى لم يزل بها حيا وعلما لم يزل به عالما وقدرة لم يزل بها قادرا وكلاما لم يزل به متكلما وإرادة لم يزل بها مريدا وسمعا وبصرا لم يزل به سميعا بصيرا وعلى أن شيئا من هذه الصفات لا يصح أن يكون محدثا إذ لو كان شيئا منها محدثا لكان تعالى قبل حدثها موصوفا بضدها ولو كان ذلك لخرج عن الإلهية وصار إلى حكم المحدثين الذين يلحقهم النقص ويختلف عليهم صفات الذم والمدح وهذا يستحيل على الله تعالى وإذا استحال ذلك عليه وجب أن يكون لم يزل بصفة الكمال إذ كان لا يجوز عليه الانتقال من حال إلى حال

الإجماع الخامس

وأجمعوا على أن صفته تعالى لا تشبه صفات المحدثين كما أن نفسه لا تشبه أنفس المخلوقين واستدلوا على ذلك بأنه لو لم يكن له تعالى هذه الصفات لم يكن موصوفا بشيء منها في الحقيقة من قبل أن من ليس له حياة لا يكون حيا ومن لم يكن له علم لا يكون عالما في الحقيقة ومن لم يكن له قدرة فليس بقادر في الحقيقة وكذلك الحال في سائر الصفات ألا ترى من لم يكن له فعل لم يكن فاعلا في الحقيقة ومن لم يكن له إحسان لم يكن محسنا ومن لم يكن له كلام لم يكن متكلما في الحقيقة ومن لم يكن له إرادة لم يكن في الحقيقة مريدا وان من وصف بشيء من ذلك مع عدم الصفات التي توجب هذه الأوصاف لهل ا يكون مستحقا لذلك في الحقيقة وإنما يكون وصفه مجازا او كذبا ألا ترى أن وصف الله تعالى للجدار بأنه يريد أن ينقض لما لم يكن له إرادة في الحقيقة كان مجازا وذلك أن هذه الأوصاف مشتقة من أخص أسماء هذه الصفات ودالة عليها فمتى لم توجد هذه الصفات التي وصف بها كان وصفه بذلك تلقيبا أو كذبا فإذا كان الله تعالى موصوفا بجميع هذه الأوصاف في صفة الحقيقة وجب إثبات الصفات التي اوجبت هذه الأوصاف له في الحقيقة وإلا كان وصفه بذلك مجازا كما وصف الجدار بأنه يريد لما لم يكن له إرادة مجازا وتبيين هذا أن وصف الإنسان بأنه مريد وسارق وظالم مشتق من الإرادة والسرقة والظلم وكذلك وصفه بأنه أسود مشتق من السواد فإذا وصف بذلك من ليس له هذه الصفات في الحقيقة كان وصفه بذلك تلقبيا ألا ترى أن من سمت العرب من أولادها بذلك لم يستحق الذم لأن تسميته بذلك لا يقتضي إثبات هذه الصفات وإنما وضعوا ذلك لهم تلقيبا كما يلقبونهم بزيد وعمرو وعلى مثل هذا جاء السمع في تسمية الجدار بأنه يريد لمالم يكن له إردة وإذا كان وصف الباري تعالى بسائر ماذكرناه من كونه تعالى حيا وقادرا وعالما ومتكلما ومريدا وسميعا وبصيرا في الحقيقة دون المجاز والتلقيب وجب إثبات هذه الصفات التي اشتق له تعالى الأوصاف من أخص أسمائها وقد أوضح ذلك بقوله تعالى ذو القوة المتين وقال أنزله بعلمه وقال ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ولا يجب إذا أثبتنا ولا يجب إذا اثبتنا هذه الصفات له تعالى على ما دلت العقول واللغة والقرآن والإجماع عليها أن تكون محدثة لأنه تعالى لم يزل موصوفا بها ولا يجب أن تكون أعراضا لأنه تعالى ليس بجسم وإنما توجد الأعراض في الأجسام ويدل بأعراضها فيها وتعاقبها عليها على حدثها ولا يجب ان تكون غيره تعالى لأن غير الشيء هو ما يجوز مفارقة صفاته له من قبل أن في مفارقتها له مايوجب حدثه وخروجه عن الألوهية وهذا يستحيل عليه كما لا يجب أن تكون نفس الباري تعالى جسما أو جوهرا أو محدودا أو في مكان دون مكان أو في غير ذلك مما لا يجوز عليه من صفاتنا لمفارقته لنا فلذلك لا يجوز على صفاته ما يجوز على صفاتنا ولا يجب إذا لم تكن هذه الصفات غيره أن تكون نفسه لاستحالة كونه حياة أو علما أو قدرة لأن من كان كذلك لم يتأت منه الفعل وذلك أن الفعل يتأتى من الحي القادر العالم دون الحياة والعلم والقدرة

الإجماع السادس

وأجمعوا على أن أمره تعالى وقوله غير محدث ولا مخلوق وقد دل الله تعالى على صحة ذلك بقوله { ألا له الخلق والأمر } ففرق تعالى بين خلقه وأمره وقال إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فبين بذلك تعالى أن الأشياء المخلوقة تكون شيئا بعد أن لم تكن بقوله وإرادته وأن قوله غير الأشياء المخلوقة من قبل أن أمره تعالى للأشياء وقوله لها كوني لو كان مخلوقا لوجب أن يكون قد خلقه بأمر آخر وذلك القول لو كان مخلوقا لكان مخلوقا بقول آخر وهذا يوجب على قائله أحد شيئين إما أن يكون كل قول محدث قد تقدمه قول محدث إلى ما لا نهاية له وهذا قول أهل الدهر بعينه أو يكون ذلك القول حادثا بغير أمره تعالى له فبطل معنى الامتداح بذلك

وقد نص على هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحضرة أوليائه من الصحابة وأعدائه من الخوارج لما أنكروا عليه التحكيم فقال والله ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت كلام الله فلم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة الذين يوالونه ولا أحد من الخوارج الذين يعادونه ولا روي عن احد منهم خلاف له في ذلك

الإجماع السابع

وأجمعوا على أنه تعالى يسمع ويرى وأن له تعالى يدين مبسوطتين وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه من غير أن يكون جوارحا وأن يديه تعالى غير نعمته

وقد دل على ذلك تشريه لآدم عليه السلام حيث خلقه بيده وتقريعه لإبليس على الاستكبار عن السجود مع ما شرفه به بقوله { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي }

الإجماع الثامن

وأجمعوا على أنه تعالى يجيء يوم القيامة والملك صفا صفا لعرض الأمم وحسابها وعقابها وثوابها فيغفر لمن يشاء من المذنبين ويعذب منهم من يشاء كما قال وليس مجيئه حركة ولا زوالا وإنما يكون المجيء حركة وزوالا إذا كان الجائي جسما أو جوهرا فإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر لم يجب أن يكون مجيئه نقلة أو حركة ألا ترى أنهم لا يريدون بقولهم جاءت زيدا الحمى أنها تنقلت إليه أو تحركت من مكان كانت فيه إذ لم تكن جسما ولا جوهرا وإنما مجيئها إليه وجودها به وأنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كما روى عن النبي وليس نزوله نقلة لأنه ليس بجسم ولا جوهر وقد نزل الوحي على النبي عند من خالفنا

الإجماع التاسع

وأجمعوا على أنه تعالى يرضى عن الطائعين له وأن رضاه عنهم إرادته لنعيمهم وأنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين ويغضب عليهم وأن غضبه إرادته لعذابهم وأنه لا يقوم لغضبه شيء

وأنه تعالى فوق سمواته على عرشه دون أرضه وقد دل على ذلك بقوله { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } وقال { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وقال { الرحمن على العرش استوى } وليس استواؤه على العرش استيلاء كما قال أهل القدر لأنه تعالى لم يزل مستوليا على كل شيء

وأنه يعلم السر وأخفى من السر ولا يغيب عنه شيء في السموات والأرض حتى كأنه حاضر مع كل شيء وقد دل الله تعالى على ذلك بقوله { وهو معكم أينما كنتم } وفسر ذلك أهل العلم بالتاويل أن علمه محيط بهم حيث كانوا

وأن له تعالى كرسيا دون العرش وقد دل الله سبحانه على ذلك بقوله { وسع كرسيه السموات والأرض } وقد جاءت الأحاديث عن النبي أن الله تعالى يضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه

الإجماع العاشر

وأجمعوا على وصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه ووصفه به نبيه من غير اعتراض فيه ولا تكيف له وأن الإيمان به واجب وترك التكييف له لازم

الإجماع الحادي عشر

وأجمعوا على أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة بأعين وجوههم على ما أخبر به تعالى في قوله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } وقد بين معنى ذلك النبي ودفع كل أشكال فيه بقوله للمؤمنين « ترون ربكم عيانا » وقوله « ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته » فبين أن رؤيته تعالى بأعين الوجوه ولم يرد النبي أن الله تعالى مثل القمر من قبل أن النبي شبه الرؤية بالرؤية ولم يشبه الله تعالى بالقمر وليس يجب إذا رأيناه تعالى أن يكون شبيها لشيء مما نراه كما لا يجب إذا علمناه انه يشبه شيئا نعلمه ولو كان يجب إذا رأيناه تعالى أن يكون مثل المرئيين هنا لوجب إذا كان الله رائيا لنا وعالما بنا أن يكون مثل الرائين العالمين منا

الإجماع الثاني عشر

وأجمعوا على أنه تعالى غير محتاج إلى شيء مما خلق وأنه تعالى يضل من يشاء ويهدى من يشاء ويعذب من يشاء وينعم على من يشاء ويعز من يشاء ويغفر لمن يشاء ويغني من يشاء

وأنه لا يسأل في شيء من ذلك عما يفعل ولا لأفعاله علل لأنه مالك غير مملوك ولا مأمور ولا منهي

وأنه يفعل ما يشاء ويفضل على من يشاء كما قال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وقال عذابي أصيب من أشاء وبين تعالى أنه ليس يجري في أفعاله مجرى خلقه بقوله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وقال تعالى فعال لما يريد

الإجماع الثالث عشر

وأجمعوا على أن القبيح من أفعال خلقه ما نهاهم عنه وزجرهم عن فعله وأن الحسن ما أمرهم به أو ندبهم إلى فعله أو أباحه لهم وقد دل تعالى على ذلك بقوله { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }

الإجماع الرابع عشر

وأجمعوا على أن على جميع الخلق الرضا بأحكام الله التي أمرهم أن يرضوا بها والتسليم في جميع ذلك لأمره والصبر على قضائه والانتهاء إلى طاعته فيما دعاهم إلى فعله أو تركه

الإجماع الخامس عشر

وأجمعوا على أنه عادل في جميع أفعاله وأحكامه ساءنا ذلك أم سرنا نفعنا أو ضرنا

الإجماع السادس عشر

وأجمعوا على انه تعالى قد قدر جميع أفعال الخلق وآجالهم وأرزاقهم قبل خلقه لهم وأثبت في اللوح المحفوظ جميع ما هو كائن منهم إلى يوم يبعثون وقد دل على ذلك بقوله { وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر }

وأخبر أنه تعالى يقرع الجاحدين لذلك في جهنم بقوله { يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر }

الإجماع السابع عشر

وأجمعوا على أنه تعالى قسم خلقه فرقتين فرقة خلقهم للجنة وكتبهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وفرقة خلقهم للسعير ذكرهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ممتثلين في ذلك لقوله تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } ولقوله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } وقد بين ذلك ما روي عن النبي في حديث القبضتين وحديث الصادق المصدوق عن عبد الله بن مسعود وما قاله النبي لعمر بن الخطاب رضوان الله عليه حين قال يا رسول الله أرأيت ما نحن فيه أمر قد فرغ منه أم مستأنف فقال بل أمر قد فرغ منه قال عمر ففيم العمل يا رسول الله فقال رسول الله « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » وغير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة

الإجماع الثامن عشر

وأجمعوا على ان الخلق لا يقدرون على الخروج مما سبق في علم الله فيهم وإرادته لهم وعلى أن طاعته تعالى واجبة عليهم فيما أمرهم وان كان السابق من علمه فيهم وإرادته لهم انهم لا يطيعونه وإن ترك معصيته لازم لجميعهم وإن كان السابق في علمه وإرادته انهم يعصونه لازم وانه تعالى يطالبهم بالأمر والنهي ويحمدهم على الطاعة فيما أمروا به ويذمهم على المعصية فيما نهوا عنه وأن جميع ذلك عدل منه تعالى عليهم كما أنه تعالى عادل على من خلقه منهم مع علمه أنه يكفر إذا أمره وأعطاه القدرة التي يعلم أنها تصيره إلى معصيته وأنه عدل في تبقيته المؤمنين إلى الوقت الذي يعلم أنهم يكفرون فيه ويرتدون عما كانوا عليه من إيمانهم وتعذيبه لهم على الجرم المنقطع بالعذاب الدائم لأنه تعالى ملك لجميع ذلك فيهم غير محتاج في فعله إلى تمليك غيره له ذلك حتى يكون جائرا فيه قبل تملكه بل هو تعالى في فعل جميع ذلك عادل له وله مالك يفعل ما يشاء كما قال تعالى فعال لما يرد

الإجماع التاسع عشر

وأجمعوا على أنه خالق لجميع الحوادث وحده لا خالق لشيء منها سواه وقد زجر الله تعالى من ظن ذلك بقوله هل من خالق غير الله كما زجر من ادعى إلها غيره بقوله تعالى من إله غير الله وإنما سمي غيره خالقا في قوله الله أحسن الخالقين وإن كان خالقا وحده على طريق الاتساع كما يقال عدل العمرين على طريق الاتساع وإن كان عمر واحدا وكما يسمى غيره إلها في قوله { وانظر إلى إلاهك الذي ظلت عليه عاكفا } في المجاز

الإجماع العشرون

وأجمعوا على ان جنس استطاعه الإيمان غير جنس استطاعته الكفر من قبل أن جنس استطاعه الإيمان هدى وتوفيق يرغب إلى الله تعالى في فعلها ويشكرعلى التفضل بها واستطاعه الكفر ضلال وخذلان يستعاذ بالله منها ويسأل العصمة بالهدى وقوة الإيمان بدلها وأن قدر المحدثين تختلف وتتجانس وتتضاد كما يختلف علمهم ويتجانس ويتضاد

الإجماع الحادي والعشرون

وأجمعوا على أن الإنسان غير غني عن ربه تعالى في سائر أوقاته وعلى الرغبة إليه في المعونة على سائر ما امر به ممتثلين لما أمرهم به في قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين فلم يفرق بين العبادة وبين الاستعانة

الإجماع الثاني والعشرون

وأجمعوا على أن الإنسان لا يستطيع أن يفعل ما علم الله تعالى أنه لا يفعله وقد نص على ذلك تعالى فيما حكاه عن الخضر في قوله لموسى عليهما السلام لما لم يصبر معه { قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا } ولم ينكر موسى قوله ولا رد عليه ما ذكره

الإجماع الثالث والعشرون

واجمعوا على ان الله تعالى قدكلف الكفار الإيمان والتصديق بنبيه وإن كانوا غير عاملين بذلك لأن النبي قد أوضح لهم الدلالة ولزمهم حكم الدعوة وإنما وجب عليهم من إيجاب الله تعالى له وطريق معرفتهم بذلك العقول التي جعلت آلة تمييزهم وانهم أثموا في الجهل في ذلك من قبل إعراضهم عن تأمل ما دعوا إلى تأومله من الأدلة التي جعل لهم بها السبيل إلى معرفة وجوب ما دعوا إليه من النظر في آياته التي أزعج بخرق العادات فيها قلوبهم وحرك بها دواعي نظرهم

الإجماع الرابع والعشرون

وأجمعوا على أنهم يستحقون الذم بأعراضهم وتشاغلهم بما نهوا عنه عن التشاغل به

الإجماع الخامس والعشرون

وأجمعوا أيضا على أن الكافرين غير قادرين على العلم بما دعوا إليه مع تشاغلهم بالأعراض عنه وإيثارهم للجهل عليه مع كونهم غير عاجزين عن ذلك ولا ممنوعين منه لصحة أبدانهم وقدرتهم على ما تشاغلوا به من الإعراض عنه وآثروه من الجهل عليه وإنما أتوا في ذلك من جهة إعراضهم عنه وسوء الاختيار

في التشاغل بتركه ولو كرهوا ما هم عليه من الإعراض عن تأمل أدلة الله التي نبههم نبيه عليها ودعاهم إلى تأملها لتأتي لهم ذلك وحصل لهم العلم به والقدرة عليه

الإجماع السادس والعشرون

وأجمعوا على أن الإنسان لا يقدر بقدرة واحدة على مقدورين كما أنه لا يعلم بعلم واحد يكتسبه شيئا من تصرفه إلا بقدرة تخصه في حال وجوده لأن التصرف لا يصح وجوده إلا بها فلو وجد تصرفه مع عدم القدرة عليه لاستغنى في وجوده عنها كما أنها لو وجدت الحركة مع عدم محلها لاستغنت في الوجود عنه ولم يحتج إليه

الإجماع السابع والعشرون

وأجمعوا على أنه لا يصح تكليف الإنسان الطاعة ونهيه عن المعصية إلا مع صحة بدنه وسلامة آلات فعله وإن كان لكل فعل يكتسبه قوة تخصه غير القوة عليه على تركه وغير الفعل المقدور بها وغير صحة بدنه كما أنه لا يصح أن يكلف فعلا إلا مع صحة عقله وآلات تمييزه وإن كان يحتاج في المعرفة لكل ما دعي إلى معرفته إلى علم يخصه ويصح معه فعله وليس يجب إذا كلفوا معرفة ما لا يعلمونه في حال التكليف لإعراضهم عنه أن يكلفوا الفعل مع عدم جميع علومهم إذ كان عدم جميع علومهم يخرجهم عن صحة عقولهم ويصيرهم إلى الجنون الذي لا يصح تكلف الاستدلال معه وكذلك الحكم في تكليفهم الإيمان الذي علم الله أنهم لا يفعلونه وسبق في الكتاب أنهم لا يكتسبونه وهم غير قادرين عليه ولا عن الخروج من علم الله فيه وحيزه عنهم به لا يخل بتكليفهم فعله من قبل ان أبدانهم صحيحة وآلات فعل ما كلفوه موجودة وقد مكنوا في فعله فهم غير عاجزين عنه ولا ممنوعين منه وإنما أتوا في ذلك بإعراضهم عما أمروا به وتشاغلهم بالكفر الذي قد آثروه عليه وشغلوا قدرهم بكسبه ولو كرهوا الكفر وما هم عليه من الإيثار له وأرادوا الإيمان لقدروا عليه ولا يجب إذا كلفوا ما هم غير قادرين على ما كلفوه من الإيمان لتشاغلهم عنه بالكفر الذي نهوا عنه أن يكلفوا الأفعال مع عدم جميع القدر من قبل أن خروجهم عن جميع القدر يصيرهم إلى العجز وفساد الأبدان والآلات التي لا يصح منهم الفعل مع عدمها كما لا يصح تكليفهم الاستدلال مع عدم جميع العلوم من قبل أن عدم جميع العلوم يصيرهم إلى فساد آلات الاستدلال التي لا يتأتى لهم الاستدلال مع فسادها وإنما يصح تكليفهم الأفعال مع صحة عقولهم وأبدانهم التي يتأتى لهم الأفعال معها وكونهم غير قادرين على ما تركوا من الأفعال وتشاغلوا عنه لا يخرجهم عن صحة أبدانهم ولا يصيرهم إلى العجز الذي لا يصح معه فعلهم كما أن قولهم غير عالمين إلى ما دعوا إلى معرفته وتشاغلهم بالإعراض عن الاستدلال عليه لا يخرجهم عن صحة عقولهم ولا يصيرهم إلى الجنون الذي لا يصح معه تكليفهم

الإجماع الثامن والعشرون

وأجمعوا على أن جميع ما عليه سائر الخلق من تصرفهم قد قدره الله تعالى قبل خلقه لهم وأحصاه في اللوح المحفوظ لهم وأحاط علمه به وبهم وأخبر بما يكون منهم وأن أحدا لا يقدر على تغيير شيء من ذلك ولا الخروج عما قدره الله تعالى وسبق علمه به وبما يتصرفون في علمه وينتهون إلى مقاديره فمنهم شقي وسعيد

الإجماع التاسع والعشرون

وأجمعوا على أنه تعالى تفضل على بعض خلقه بالتوفيق والهدى وحبب إليهم الإيمان وشرح صدورهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم راشدين كما قال تعالى { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } وقال { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } فعدد بذلك نعمته عليهم

الإجماع الثلاثون

وأجمعوا على أن ما يقدر عليه من الألطاف التي لو فعلها لآمن جميع الخلق غير متناهية وأن فعل ذلك غير واجب عليه بل هو تعالى متفضل بما يفعله منها وأنه تعالى لم يتفضل على بعض خلقه بذلك بل أضلهم كما قال { ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } وقد قال موسى عليه السلام لما جيء بالعجل الذي عمله السامري لبني إسرائيل وكان خواره فعل الباري تعالى عنده { إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء } ولم ينكر الله ذلك عليه ولو كان وصفه بذلك جورا كما يقول القدرية لما ترك إنكار ذلك عليه وزجره عنه وقد قال نبينا « اعملوا فكل ميسر لما خلق له »

الإجماع الحادي والثلاثون

وأجمعوا على أن الله تعالى كان قادرا على أن يخلق جميع الخلق في الجنة متفضلا عليهم بذلك لأنه تعالى غير محتاج إلى عبادتهم له وأنه قادر أن يخلقهم كلهم في النار ويكون بذلك عادلا عليهم لأن الخلق خلقه والأمر أمره { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ولأنه تعالى فعل من ذلك ما أراد { لا معقب لحكمه } { وهو السميع البصير }

الإجماع الثاني والثلاثون

وأجمعوا على أنه تعالى لا يجب عليه أن يساوي بين خلقه في النعم وأن له أن يختص من يشاء منهم بما شاء من نعمة وقد دل على صحة قولنا بقوله تعالى ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وأخبرنا تعالى عما أراده في تفضل بعض خلقه المكلفين فقال { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } وقال في فريق آخر وهم أهل بيت النبي { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } وإنما اختلف الفريقان لاختلاف ما أراده الله تعالى لهم

الإجماع الثالث والثلاثون

وأجمعوا على أنه ليس لأحد من الخلق الاعتراض على الله تعالى في شيء من تدبيره ولا إنكار لشيء من أفعاله إذ كان مالك لما يشاء منها غير مملوك وأنه تعالى حكيم قبل أن يفعل سائر الأفعال وأن جميع ما يفعله لا يخرجه عن الحكمة وأن من يعترض عليه في أفعاله متبع لرأي الشيطان في ذلك حين امتنع من السجود لآدم عليه السلام وزعم أن ذلك فساد في التدبير وخروج من الحكمة حين { قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين }

الإجماع الرابع والثلاثون

وأجمعوا على أن النبي دعا جميع الخلق إلى معرفة الله وإلى نبوته ونهاهم عن الجهل بالله تعالى وعن تكذيبه وأنه بين لهم جميع ما دعاهم إليه من الإسلام والإيمان وما رغبهم فيه من منازل الإحسان وأوضح لهم الأدلة عليه وبين لهم الطريق إليه وأن جبريل عليه السلام جاءه في صورة أعرابي بحضرة أصحابه فقال له ما الإسلام فقال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت في الحديث الطويل فقال صدقت قال فما الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره وغير ذلك فقال صدقت قال فما الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك ثم انصرف ونحن نتعجب من تصديقه النبي فقال لهم النبي بعد أمره لهم بطلبه فلم يجدوه بعد انصرافه هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم ولذلك قد بين لهم قبل ذلك طرق المعارف بحدثهم ودلهم على وجود المحدث لهم ودلهم على صدقه فيما أنبأهم به عن ربه تعالى على ما قد سلف شرحنا له

الإجماع الخامس والثلاثون

وأجمعوا على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وليس نقصانه عندنا شك فيما أمرنا بالتصديق به ولا جهل به لأن ذلك كفر وإنما هو نقصان في مرتبة العلم وزيادة البيان كما يختلف وزن طاعتنا وطاعة النبي وإن كنا جميعا مؤديين للواجب علينا

الإجماع السادس والثلاثون

وأجمعوا على أن المؤمن بالله تعالى وسائر ما دعاه النبي إلى الإيمان به لا يخرجه عنه شيء من المعاصي ولا يحبط إيمانه إلا الكفر وأن العصاة من أهل القبلة مأمورين بسائر الشرائع غير خارجين عن الإيمان بمعاصيهم

وقد سمى الله عصاة أهل القبلة مؤمنين بقوله { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم }... الآية فلو كانوا خرجوا من الإيمان بمعاصيهم كما قالت القدرية لما تعلق عليهم فرض الطهارة وكان خطاب الله تعالى منصرفا إلى المؤمنين دونهم وكذلك قال { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } ولم يخص بالحض على ذلك الطائعين دون العاصين

الإجماع السابع والثلاثون

وأجمعوا على أنه لا يقطع على أحد من عصاة أهل القبلة في غير البدع بالنار ولا على أحد من أهل الطاعة بالجنة إلا من قطع عليه رسول الله بذلك وقد دل الله تعالى على ذلك بقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ولا سبيل لأحد إلى معرفة مشيئته تعالى إلا بخبر وقد قال النبي لا تنزلوا أحدا من أهل القبلة جنة ولا نارا

الإجماع الثامن والثلاثون

وأجمعوا على أن العباد حفظة يكتبون أعمالا وقد دل على ذلك بقوله { وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين }

الإجماع التاسع والثلاثون

وأجمعوا على أن عذاب القبر حق وأن الناس يفتنون في قبورهم بعد أن يحييون فيها ويسألون فيثبت الله من أحب تثبيته

وأنهم لا يذوقون ألم الموت كما قال تعالى { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى }

وعلى أنه ينفخ في الصور قبل يوم القيامة ويصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون

وعلى أن الله تعالى يعيدهم كما بدأهم حفاة عراة عزلا

وأن الأجساد التي أطاعت وعصت هي التي تبعث يوم القيامة وكذلك الجلود التي كانت في الدنيا والألسنة والأيدي والأرجل هي التي تشهد عليهم يوم القيامة

وأن الله تعالى ينصب الموازين لوزن أعمال العباد فمن ثقلت موازينه أفلح ومن خفت موازينه خاب وخسر وأن كفة السيئات تهوي إلى جهنم وأن كفة الحسنات تهوي عند زيادتها إلى الجنة

وأن الخلق يؤتون يوم القيامة بصحائف فيها أعمالهم فمن أوتي كتابه بيمينه حوسب حسابا يسيرا ومن أوتي كتابه بشماله فأولئك يصلون سعيرا

الإجماع الأربعون

وأجمعوا على أن الصراط جسر ممدود على جهنم يجوز عليه العباد بقدر أعمالهم وأنهم يتفاوتون في السرعة والإبطاء على قدر ذلك

الإجماع الحادي والأربعون

وأجمعوا على أن الله تعالى يخرج من النار من في قلبه شيء من الإيمان بعد الانتقام منه

الإجماع الثاني والأربعون

وأجمعوا على أن شفاعة النبي لأهل الكبائر من أمته وعلى أنه يخرج من النار قوما من أمته بعدما صاروا حمما فيطرحون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل

وعلى أن لرسول الله حوضا يوم القيامة ترده أمته لا يظمأ من شرب منه ويذاد عنه من بدل وغيره بعده

وعلى أن الإيمان بما جاء من خبر الإسراء بالنبي إلى السموات واجب

وكذلك ما روي من خبر الدجال ونزول عيسى بن مريم وقتله الدجال وغير ذلك من سائر الآيات التي تواترت الرواية بين يدي الساعة من طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وغير ذلك مما نقله إلينا الثقات عن رسول الله وعرفونا صحته

الإجماع الثالث والأربعون

وأجمعوا على التصديق بجميع ما جاء به رسول الله في كتاب الله وما ثبت به النقل من سائر سنته ووجوب العمل بمحكمه والإقرار بنص مشكله ومتشابهه ورد كل ما لم يحط به علما بتفسيره إلى الله مع الإيمان بنصه وأن ذلك لا يكون إلا فيما كلفوا الإيمان بجملته دون تفصيله

الإجماع الرابع والأربعون

وأجمعوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليهم بأيديهم وبألسنتهم إن استطاعوا ذلك وإلا فبقلوبهم وأنه لا يجب عليهم بالسيف إلا في اللصوص والقطاع بعد مناشدتهم

الإجماع الخامس والأربعون

وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين وعلى أن كل من ولي شيئا من أمورهم عن رضى أو غلبة وامتدت طاعته من بر وفاجر لا يلزم الخروج عليهم بالسيف جار أو عدل وعلى أن يغزوا معهم العدو ويحج معهم البيت وتدفع إليهم الصدقات إذا طلبوها ويصلى خلفهم الجمع والأعياد وأنه لا يصلى خلف أحد من أهل البدع منهم من أجل أنهم قد فسقوا بالبدع والإمامة موضع فضل ولا يصح أن يأتم العدل بالفاسق كما لا يجب أن يأتم القارىء بالأمي إلا أن يخاف منهم فيصلي معهم وتعاد الصلاة بعدهم

الإجماع السادس والأربعون

وأجمعوا على أن خير القرون قرن الصحابة ثم الذين يلونهم على ما قال « خيركم قرني » وعلى أن خير الصحابة أهل بدر وخير أهل بدر العشرة وخير العشرة الأئمة الأربعة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم

وأن أمامتهم كانت عن رضى من جماعتهم وأن الله ألف قلوبهم على ذلك لما أراده من استخلافهم جميعا بقوله { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كم استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } فجمع الله قلوب المؤمنين على ترتيبهم في التقديم من قبل أنهم لو قدموا عمر على الجماعة لخرج أبو بكر عما وعده الله به وكذلك لو قدم عثمان لخرج أبو بكر وعمر لأن الله قد علم أنه يبقى بعدهما وأنهما يموتان قبله وكذلك لو قدم علي على جميعهم لخرجوا من الوعد لعلم الله أنهم يموتون قبله فرتبهم وألف بين قلوب المؤمنين على ذلك لينالوا جميعا ما وعدوا به وإن كان كل واحد منهم يعلم ذلك

الإجماع السابع والأربعون

وأجمعوا على أن الخيار بعد العشرة في أهل بدر من المهاجرين والأنصار على قدر الهجرة والسابقة وعلى أن كل من صحب النبي ولو ساعة أو رآه ولو مرة مع إيمانه به وبما دعا إليه أفضل من التابعين بذلك

الإجماع الثامن والأربعون

وأجمعوا على الكف عن ذكر الصحابة عليهم السلام إلا بخير ما يذكرون به وعلى أنهم أحق أن ينشر محاسنهم ويلتمس لأفعالهم أفضل المخارج وأن نظن بهم أحسن الظن وأحسن المذاهب ممتثلين في ذلك لقول رسول الله « إذا ذكر أصحابي فأمسكوا » وقال أهل العلم معنى ذلك لا تذكروهم إلا بخير الذكر، وقوله « لا تؤذوني في أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه » وعلى ما أثنى الله تعالى به عليهم بقوله { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل }... إلى آخر ما قص الله تعالى من ذكرهم ثم قال { ليغيظ بهم الكفار }

الإجماع التاسع والأربعون

وأجمعوا على أن ما كان بينهم من الأمور الدنيا لا يسقط حقوقهم كما لا يسقط ما كان بين أولاد يعقوب النبي عليه السلام من حقوقهم وعلى أنه لا يجوز لأحد أن يخرج عن أقاويل السلف فيما أجمعوا عليه وعما اختلفوا فيه أو في تأويله لأن الحق لا يجوز أن يخرج عن أقاويلهم

الإجماع الخمسون

وأجمعوا على ذم سائر أهل البدع والتبري منهم وهو الرافض والخوارج والمرجئة والقدرية وترك الاختلاط بهم لما روي عن النبي في ذلك وما أمر به من الإعراض عنهم في قوله تعالى { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم }

وما روي عن النبي أن الخوارج كلاب أهل النار وما روي عنه أنه قال فرقتان لا تنالهما شفاعتي المرجئة والقدرية وأنه عليه السلام قال القدرية مجوس هذه الأمة وأنهم الذين يعترضون على الله في مقاديره ويزعمون أنهم يقدرون على الخروج من علمه وانهم يخلقون كخلقه وإنما شبههم النبي بالمجوس دون سائر الفرق من اليهود والنصارى في مشاركتهم لهم فيما يختصون به من قولهم إن الشر لا يفعله إلا الشرير وأن الله لا يفعل ذلك كما قالت المجوس في النور الذي يعبدونه وأنه لا يضر أحدا لأن من ضر غيره كان سفيها وقد أجمع المسلمون على أن الله الضار النافع وقال تعالى { قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق }

الإجماع الحادي والخمسون

وأجمعوا على النصيحة للمسلمين والتولي بجماعتهم وعلى التوادد في الله والدعاء لأئمة المسلمين والتبري ممن ذم أحدا من أصحاب رسول الله وأهل بيته وأزواجه وترك الاختلاط بهم والتبري منهم

فهذه الأصول التي مضى الأسلاف عليها واتبعوا حكم الكتاب والسنة بها واقتدى بهم الخلف الصالح في مناقبها

نفعنا الله وإياكم آخره والحمد لله رب العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله


=======

 

رسالة ابن تيمية عند مداهمة التتار لأرض المسلمين

رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية عند مداهمة التتار لأرض المسلمين

ابن تيمية

المصدر

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين:

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وسلم تسليما.

أما بعد:

فقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده: { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا }، والله تعالى يحقق لنا التمام بقوله: { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا. وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا }

فإن هذه الفتنة التي ابتلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الإسلام: قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم، على عهد رسول الله في المغازي التي أنزل الله فيها كتبه، وابتلى بها نبيه والمؤمنين: مما هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا إلى يوم القيامة ؛ فإن نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظي والمعنوي أو بالعموم المعنوي.

وعهود الله في كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة كما نالت أولها، وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين، كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة وأجمل قصص الأنبياء، ثم قال: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى } أي هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة، كنحو ما يذكر في الحروب من السير المكذوبة، وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون: { فأخذه الله نكال الأخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى }.

وقال في سيرة نبينا محمد مع أعدائه ببدر وغيرها: { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار }، وقال تعالى في محاصرته لبني النضير: { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار } فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة، وممن قبلها من الأمم، وذكر في غير موضع: أن سنته في ذلك سنة مطردة وعادته مستمرة، فقال تعالى: { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } وقال تعالى: { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا. سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا }.

وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المستأخرين، كدأب الكافرين من المستقدمين، فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده ودأب الأمم وعاداتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الأسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيه عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبل الأيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء، وكانوا قوما بورا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والأخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والأيقان، من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق، وضعف إيمان ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى، ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى، فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد، كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود، وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه ؛ إذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه، وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسه، كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال، وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع، وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع، ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى، إلا الأيمان والعمل الصالح والبر والتقوى، وبليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال، يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل، وذم سادته وكبراءه من أطاعهم، فأضلوه السبيلا، كما حمد ربه من صدق في إيمانه، فاتخذ مع الرسول سبيلا، وبان صدق ما جاءت به الأثار النبوية من الأخبار بما يكون، وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون، وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة، على الدين الذين لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم إلى يوم القيامة.

حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الأسلام، وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور، وكان هذا الامتحان تمييزا من الله وتقسيما: { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما }.

ووجه الاعتبار في هذه الحادثة العظيمة: أن الله تعالى بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرع له الجهاد إباحة له أولا، ثم إيجابا له ثانيا ؛ لما هاجر إلى المدينة، وصار له فيها أنصار ينصرون الله ورسوله، فغزا بنفسه مدة مقامه بدار الهجرة، وهو نحو عشر سنين: بضعا وعشرين غزوة، أولها غزوة بدر وآخرها غزوة تبوك: أنزل الله في أول مغازيه ( سورة الأنفال ) وفي آخرها ( سورة براءة )، وجمع بينهما في المصحف ؛ لتشابه أول الأمر وآخره، كما قال أمير المؤمنين عثمان: لما سئل عن القران بين السورتين من غير فصل بالبسملة.

وكان القتال منها في تسع غزوات، فأول غزوات القتال: بدر وآخرها حنين والطائف، وأنزل الله فيها ملائكته كما أخبر به القرآن ؛ ولهذا صار الناس يجمعون بينهما في القول، وإن تباعد ما بين الغزوتين مكانا وزمانا ؛ فإن بدرا كانت في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ما بين المدينة ومكة شامي مكة، وغزوة حنين في آخر شوال من السنة الثامنة، وحنين واد قريب من الطائف شرقي مكة، ثم قسم النبي غنائمها بالجعرانة واعتمر من الجعرانة، ثم حاصر الطائف، فلم يقاتله أهل الطائف زحفا وصفوفا، وإنما قاتلوه من وراء جدار، فآخر غزوة كان فيها القتال زحفا واصطفافا: هي غزوة حنين.

وكانت غزوة بدر أول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار، وقتل الله أشرافهم وأسر رءوسهم مع قلة المسلمين وضعفهم ؛ فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ليس معهم إلا فرسان، وكان يعتقب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد، وكان عدوهم بقدرهم أكثر من ثلاث مرات في قوة وعدة وهيئة وخيلاء، فلما كان من العام المقبل غزا الكفار المدينة، وفيها النبي وأصحابه، فخرج إليهم النبي وأصحابه في نحو من ربع الكفار، وتركوا عيالهم بالمدينة ثم ينقلوهم إلي موضع آخر، وكانت أولا الكرة للمسلمين عليهم ثم صارت للكفار، فانهزم عامة عسكر المسلمين، إلا نفرا قليلا حول النبي منهم من قتل ومنهم من جرح، وحرصوا على قتل النبي ، حتى كسروا رباعيته، وشجوا جبينه، وهشموا البيضة على رأسه، وأنزل الله فيها شطرا من سورة آل عمران من قوله: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال }، وقال فيها: { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم }، وقال فيها: { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الأخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين }، وقال فيها: { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير }.

وكان الشيطان قد نعق في الناس: أن محمدا قد قتل، فمنهم من تزلزل لذلك فهرب، ومنهم من ثبت فقاتل، فقال الله تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين }.

وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا في العام الماضي، وكانت هزيمة المسلمين في العام الماضي بذنوب ظاهرة وخطايا واضحة: من فساد النيات والفخر والخيلاء والظلم والفواحش والأعراض عن حكم الكتاب والسنة، وعن المحافظة على فرائض الله والبغي على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم، وكان عدوهم في أول الأمر راضيا منهم بالموادعة والمسالمة، شارعا في الدخول في الإسلام، وكان مبتدئا في الأيمان والأمان، وكانوا هم قد أعرضوا عن كثير من أحكام الأيمان، فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ؛ ليمحص الله الذين آمنوا وينيبوا إلى ربهم، وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغي والمكر والنكث والخروج عن شرائع الإسلام، فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر، وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام، فقد كان في نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم - الذي هو على الحال المذكورة - لاوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف، كما أن نصر الله للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة وهزيمتهم يوم أحد كان نعمة ورحمة على المؤمنين ؛ فإن النبي قال: « لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء فشكر الله كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ».

فلما كانت حادثة المسلمين عام أول شبيهة بأحد، وكان بعد أحد بأكثر من سنة - وقيل بسنتين - قد ابتلي المسلمون عام الخندق، كذلك في هذا العام ابتلي المؤمنون بعدوهم كنحو ما ابتلي المسلمون مع النبي عام الخندق وهي غزوة الأحزاب التي أنزل الله فيها ( سورة الأحزاب )، وهي سورة تضمنت ذكر هذه الغزاة التي نصر الله فيها عبده وأعز فيها جنده المؤمنين وهزم الأحزاب - الذين تحزبوا عليه - وحده بغير قتال ؛ بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوهم، ذكر فيها خصائص رسول الله وحقوقه وحرمته وحرمة أهل بيته ؛ لما كان هو القلب الذي نصره الله فيها بغير قتال، كما كان ذلك في غزوتنا هذه سواء، وظهر فيها سر تأييد الدين كما ظهر في غزوة الخندق، وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق.

وذلك أن الله تعالى منذ بعث محمدا ، وأعزه بالهجرة والنصرة صار الناس ثلاثة أقسام: قسما مؤمنين وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا، وقسما كفارا، وهم الذين أظهروا الكفر به، وقسما منافقين، وهم الذين آمنوا ظاهرا لا باطنا، ولهذا افتتح ( سورة البقرة ) بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وثلاث عشرة آية في صفة المنافقين، وكل واحد من الأيمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب، كما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة، وكما فسره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث المأثور عنه في الأيمان ودعائمه وشعبه.

فمن النفاق ما هو أكبر ويكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار ؛ كنفاق عبد الله بن أبي وغيره ؛ بأن يظهر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك: مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله، وهذا القدر كان موجودا في زمن رسول الله وما زال بعده ؛ بل هو بعده أكثر منه على عهده ؛ لكون موجبات الأيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها - وكان النفاق معها موجودا - فوجوده فيما دون ذلك أولى.

وكما أنه كان يعلم بعض المنافقين، ولا يعلم بعضهم، كما بينه قوله: { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } كذلك خلفاؤه بعده وورثته: قد يعلمون بعض المنافقين ولا يعلمون بعضهم، وفي المنتسبين إلى الإسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون في الخاصة والعامة، ويسمون ( الزنادقة )، وقد اختلف العلماء في قبول توبتهم في الظاهر ؛ لكون ذلك لا يعلم إذ هم دائما يظهرون الإسلام، وهؤلاء يكثرون في المتفلسفة: من المنجمين ونحوهم، ثم في الأطباء، ثم في الكتاب أقل من ذلك، ويوجدون في المتصوفة والمتفقهة، وفي المقاتلة والأمراء، وفي العامة أيضا، ولكن يوجدون كثيرا في نحل أهل البدع ؛ لا سيما الرافضة، ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس في أحد من أهل النحل، ولهذا كانت الخرمية والباطنية والقرامطة والأسماعيلية والنصيرية، ونحوهم من المنافقين الزنادقة: منتسبة إلى الرافضة، وهؤلاء المنافقون في هذه الأوقات لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار ؛ لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام ؛ بل يتركونهم وما هم عليه، وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم في الدنيا، واستيلائهم على الأموال، واجترائهم على الدماء والسبي ؛ لا لأجل الدين، فهذا ضرب النفاق الأكبر.

وأما النفاق الأصغر: فهو النفاق في الأعمال ونحوها: مثل أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا اؤتمن، أو يفجر إذا خاصم، ففي الصحيحين عن النبي قال: « آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان »، وفي رواية صحيحة: « وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ».

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو، عن النبي قال: « أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ».

ومن هذا الباب: الأعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين، قال النبي : « من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق » رواه مسلم، وقد أنزل الله ( سورة براءة ) التي تسمى الفاضحة ؛ لأنها فضحت المنافقين، أخرجاه في الصحيحين عن ابن عباس قال: هي الفاضحة ما زالت تنزل: « ومنهم ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها ».

وعن المقداد بن الأسود قال: « هي سورة البحوث ؛ لأنها بحثت عن سرائر المنافقين »، وعن قتادة قال: « هي المثيرة ؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين »، وعن ابن عباس قال: « هي المبعثرة »، والبعثرة والأثارة متقاربان، وعن ابن عمر: « أنها المقشقشة، لأنها تبرئ من مرض النفاق »، يقال: تقشقش المريض إذا برأ: قال الأصمعي: وكان يقال لسورتي الأخلاص: المقشقشتان ؛ لأنهما يبرئان من النفاق.

وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي غزوة تبوك عام تسع من الهجرة، وقد عز الإسلام وظهر، فكشف الله فيها أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن وترك الجهاد، ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل الله والشح على المال، وهذان داءان عظيمان: الجبن والبخل، قال النبي : « شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع » حديث صحيح ؛ ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار، كما دل عليه قوله: { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وقال تعالى: { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير }.

وأما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى: { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون. لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون }، فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا إنهم من المؤمنين فما هم منهم ؛ ولكن يفزعون من العدو: { لو يجدون ملجأ } يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد، أو ( مغارات وهي جمع مغارة، ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي يستتر ؛ كما يغور الماء: { أو مدخلا }، وهو الذي يتكلف الدخول إليه، إما لضيق بابه أو لغير ذلك، أي مكانا يدخلون إليه، ولو كان الدخول بكلفة ومشقة: لولوا عن الجهاد { إليه وهم يجمحون } أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء، كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام، وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا، وفيما قبلها من الحوادث وبعدها.

وكذلك قال في ( سورة محمد ) : { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم } أي فبعدا لهم: { طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم }، وقال تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد.

وقال تعالى: { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الأخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الأخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون }، فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد ؛ وإنما يستأذنه الذي لا يؤمن، فكيف بالتارك من غير استئذان.

ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متضافرة على هذا المعنى، وقال في وصفهم بالشح: { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون }، فهذه حال من أنفق كارها، فكيف بمن ترك النفقة رأسا، وقال: { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون }، وقال: { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون }، وقال في السورة: { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } فانتظمت هذه الأية حال من أخذ المال بغير حقه، أو منعه من مستحقه من جميع الناس ؛ فإن الأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد، وقد أخبر أن كثيرا منهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون - أي يعرضون ويمنعون، يقال: صد عن الحق صدودا وصد غيره صدا، وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل: من وقف أو عطية على الدين كالصلاة والنذور التي تنذر لأهل الدين ومن الأموال المشتركة كأموال بيت المال ونحو ذلك، فهذا فيمن يأكل المال بالباطل بشبهة دين، ثم قال: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله }، فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله، والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل الله، سواء كان ملكا أو مقدما أو غنيا أو غير ذلك، وإذا دخل في هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب، فما كنز من الأموال المشتركة التي يستحقها عموم الأمة - ومستحقها: مصالحهم - أولى وأحرى.

فإذا تبين بعض معنى المؤمن والمنافق، فإذا قرأ الأنسان ( سورة الأحزاب )، وعرف من المنقولات في الحديث والتفسير والفقه والمغازي: كيف كانت صفة الواقعة التي نزل بها القرآن، ثم اعتبر هذه الحادثة بتلك: وجد مصداق ما ذكرنا، وأن الناس انقسموا في هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة، كما انقسموا في تلك، وتبين له كثير من المتشابهات، افتتح الله السورة بقوله: { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين }، وذكر في أثنائها قوله: { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا. ولا تطع الكافرين والمنافقين }، ثم قال: { واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا. وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا }، فأمره باتباع ما أوحى إليه من الكتاب والحكمة - التي هي سنته - وبأن يتوكل على الله، فبالأولى يحقق قوله: { إياك نعبد }، وبالثانية يحقق قوله: { وإياك نستعين }، ومثل ذلك قوله: { فاعبده وتوكل عليه }، وقوله: { عليه توكلت وإليه أنيب }.

وهذا وإن كان مأمورا به في جميع الدين ؛ فإن ذلك في الجهاد أوكد ؛ لأنه يحتاج إلى أن يجاهد الكفار والمنافقين ؛ وذلك لا يتم إلا بتأييد قوي من الله ؛ ولهذا كان الجهاد سنام العمل وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة، ففيه سنام المحبة كما في قوله: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } وفيه سنام التوكل وسنام الصبر ؛ فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل ؛ ولهذا قال تعالى: { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الأخرة أكبر لو كانوا يعلمون. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } و قال موسى لقومه: { استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين }، ولهذا كان الصبر واليقين - اللذين هما أصل التوكل - يوجبان الأمامة في الدين كما دل عليه قوله تعالى: { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }، ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم، كما دل عليه قوله تعالى: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }.

فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى ؛ ولهذا قال الأمامان عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء، فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم ؛ لأن الله يقول: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }، وفي الجهاد أيضا: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفي الدار الدنيا، وفيه أيضا: حقيقة الأخلاص، فإن الكلام فيمن جاهد في سبيل الله لا في سبيل الرياسة، ولا في سبيل المال، ولا في سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله ولتكون كلمة الله هي العليا، وأعظم مراتب الأخلاص: تسليم النفس والمال للمعبود كما قال تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون }، والجنة: اسم للدار التي حوت كل نعيم، أعلاه النظر إلى الله إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما قد نعرفه وقد لا نعرفه كما قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله : « أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ».

فقد تبين بعض أسباب افتتاح هذه السورة بهذا، ثم إنه تعالى قال: { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا } كان مختصر القصة: أن المسلمين تحزب عليهم عامة المشركين الذين حولهم، وجاءوا بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين، فاجتمعت قريش وحلفاؤها من بني أسد وأشجع وفزارة وغيرهم من قبائل نجد، واجتمعت أيضا اليهود: من قريظة والنضير، فإن بني النضير كان النبي قد أجلاهم قبل ذلك، كما ذكره الله تعالى في ( سورة الحشر )، فجاءوا في الأحزاب إلى قريظة، وهم معاهدون للنبي ، ومجاورون له قريبا من المدينة، فلم يزالوا بهم حتى نقضت قريظة العهد، ودخلوا في الأحزاب، فاجتمعت هذه الأحزاب العظيمة، وهم بقدر المسلمين مرات متعددة، فرفع النبي الذرية من النساء والصبيان في آطام المدينة، وهي مثل الجواسق، ولم ينقلهم إلى مواضع أخر، وجعل ظهرهم إلى سلع - وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشام - وجعل بينه وبين العدو خندقا، والعدو قد أحاط بهم من العالية والسافلة، وكان عدوا شديد العداوة، لو تمكن من المؤمنين لكانت نكايته فيهم أعظم النكايات.

وفي هذه الحادثة تحزب هذا العدو من مغول، وغيرهم من أنواع الترك، ومن فرس ومستعربة ونحوهم من أجناس المرتدة، ومن نصارى الأرمن وغيرهم، ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين، وهو بين الأقدام والأحجام، مع قلة من بإزائهم من المسلمين، ومقصودهم الاستيلاء على الدار واصطلام أهلها، كما نزل أولئك بنواحي المدينة بإزاء المسلمين، ودام الحصار على المسلمين عام الخندق - على ما قيل - بضعا وعشرين ليلة، وقيل: عشرين ليلة، وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الأخر، وكان أول انصرافه راجعا عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه: يوم الاثنين حادي أو ثاني عشر جمادى الأولى يوم دخل العسكر عسكر المسلمين إلى مصر المحروسة، واجتمع بهم الداعي وخاطبهم في هذه القضية، وكان الله سبحانه وتعالى لما ألقى في قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم: ألقى الله في قلوب عدوهم الروع والانصراف، وكان عام الخندق برد شديد وريح شديدة منكرة بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى: { فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها }.

وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد على خلاف أكثر العادات، حتى كره أكثر الناس ذلك، وكنا نقول لهم: لا تكرهوا ذلك ؛ فإن لله فيه حكمة ورحمة، وكان ذلك من أعظم الأسباب التي صرف الله به العدو ؛ فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد، حتى هلك من خيلهم ما شاء الله، وهلك أيضا منهم من شاء الله، وظهر فيهم وفي بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال، حتى بلغني عن بعض كبار المقدمين في أرض الشام أنه قال: لا بيض الله وجوهنا: أعدونا في الثلج إلى شعره، ونحن قعود لا نأخذهم ؟ وحتى علموا أنهم كانوا صيدا للمسلمين لو يصطادونهم ؛ لكن في تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة، وقال الله في شأن الأحزاب: { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا }.

وهكذا هذا العام، جاء العدو من ناحيتي علو الشام وهو شمال الفرات، وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغا عظيما، وبلغت القلوب الحناجر ؛ لعظم البلاء ؛ لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق، وظن الناس بالله الظنونا، هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، حتى يصطلموا أهل الشام، وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة، وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر، وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام، وهذا يظن إنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف قدامهم أحد فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها، وهذا - إذا أحسن ظنه - قال: إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين، ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام، وهذا ظن خيارهم.

وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الأثار النبوية وأهل التحديث والمبشرات، أماني كاذبة وخرافات لاغية، وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب ليس له عقل يتفهم ولا لسان يتكلم، وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الأرادات ؛ لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء ؛ بل إما أن يكون جاهلا بها، وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية، فلذلك استولت الحيرة على من كان متسما بالاهتداء، وتراجمت به الأراء تراجم الصبيان بالحصباء: { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا } ابتلاهم الله بهذا الابتلاء الذي يكفر به خطيئاتهم، ويرفع به درجاتهم، وزلزلوا بما يحصل لهم من الرجفات ما استوجبوا به أعلى الدرجات، قال الله تعالى: { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا }.

وهكذا قالوا في هذه الفتنة، فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية والخلافة الرسالية وحزب الله المحدثون عنه، حتى حصل لهؤلاء التأسي برسول الله ، كما قال الله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }.

فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم، وأما الذين في قلوبهم مرض، فقد تكرر ذكرهم في هذه السورة، فذكروا هنا وفي قوله: { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة }، وفي قوله: { فيطمع الذي في قلبه مرض } وذكر الله مرض القلب في مواضع، فقال تعالى: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم }، والمرض في القلب كالمرض في الجسد، فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والاعتدال من غير موت، فكذلك قد يكون في القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال من غير أن يموت القلب، سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه، أو أفسد عمله وحركته، وذلك - كما فسروه -: هو من ضعف الأيمان ؛ إما بضعف علم القلب واعتقاده، وإما بضعف عمله وحركته، فيدخل فيه من ضعف تصديقه، ومن غلب عليه الجبن والفزع ؛ فإن أدواء القلب من الشهوة المحرمة والحسد والجبن والبخل وغير ذلك كلها أمراض.

وكذلك الجهل والشكوك والشبهات التي فيه، وعلى هذا فقول: { فيطمع الذي في قلبه مرض } هو إرادة الفجور وشهوة الزنا كما فسروه به، ومنه قول النبي : « وأي داء أدوأ من البخل ؟ »، وقد جعل الله تعالى كتابه شفاء لما في الصدور، وقال النبي : « إنما شفاء العي السؤال »، وكان يقول في دعائه: « اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء »، ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه كما ذكروا أن رجلا شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال: لو صححت لم تخف أحدا، أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك.

ولهذا أوجب الله على عباده أن لا يخافوا حزب الشيطان ؛ بل لا يخافون غيره تعالى فقال: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } أي يخوفكم أولياءه، وقال لعموم بني إسرائيل تنبيها لنا: { وإياي فارهبون }، وقال: { فلا تخشوا الناس واخشون }، وقال: { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني }، وقال تعالى: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون }، وقال: { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الأخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله }، وقال: { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله }، وقال: { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه }.

فدلت هذه الأية - وهي قوله تعالى: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض }، على أن المرض والنفاق في القلب يوجب الريب في الأنباء الصادقة، التي توجب أمن الأنسان: من الخوف حتى يظنوا أنها كانت غرورا لهم، كما وقع في حادثتنا هذه سواء، ثم قال تعالى: { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا }، وكان النبي قد عسكر بالمسلمين عند سلع، وجعل الخندق بينه وبين العدو، فقالت طائفة منهم: لا مقام لكم هنا ؛ لكثرة العدو، فارجعوا إلى المدينة، وقيل: لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين الشرك، وقيل: لا مقام لكم على القتال، فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم.

وهكذا لما قدم هذا العدو، كان من المنافقين من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم، فينبغي الدخول في دولة التتار، وقال بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن ؛ بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر، وقال بعضهم: بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء، كما قد استسلم لهم أهل العراق والدخول تحت حكمهم، فهذه المقالات الثلاث قد قيلت في هذه النازلة، كما قيلت في تلك، وهكذا قال طائفة من المنافقين، والذين في قلوبهم مرض، لأهل دمشق خاصة والشام عامة: لا مقام لكم بهذه الأرض، ونفي المقام بها أبلغ من نفي المقام، وإن كانت قد قرئت بالضم أيضا، فإن من لم يقدر أن يقوم بالمكان فكيف يقيم به ؟.

قال الله تعالى: { ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا }، وكان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون - والناس مع النبي عند سلع داخل الخندق والنساء والصبيان في آطام المدينة -: يا رسول الله إن بيوتنا عورة، أي مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل، - وأصل العورة: الخالي الذي يحتاج إلى حفظ وستر، يقال: اعور مجلسك إذا ذهب ستره أو سقط جداره، ومنه عورة العدو -، وقال مجاهد والحسن: أي ضائعة تخشى عليها السراق، وقال قتادة: قالوا: بيوتنا مما يلي العدو، فلا نأمن على أهلنا فائذن لنا أن نذهب إليها لحفظ النساء والصبيان، قال الله تعالى: { وما هي بعورة } ؛ لأن الله يحفظها { إن يريدون إلا فرارا }، فهم يقصدون الفرار من الجهاد ويحتجون بحجة العائلة.

وهكذا أصاب كثيرا من الناس في هذه الغزاة، صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون، وإلى الأماكن البعيدة كمصر، ويقولون: ما مقصودنا إلا حفظ العيال، وما يمكن إرسالهم مع غيرنا، وهم يكذبون في ذلك، فقد كان يمكنهم جعلهم في حصن دمشق لو دنا العدو، كما فعل المسلمون على عهد رسول الله ، وقد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد، فكيف بمن فر بعد إرسال عياله ؟ قال الله تعالى: { ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا }، فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها، ثم طلبت منهم الفتنة - وهي الافتتان عن الدين بالكفر أو النفاق - لاعطوا الفتنة، ولجئوها من غير توقف.

وهذه حال أقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم، ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام - وتلك فتنة عظيمة - لكانوا معه على ذلك، كما ساعدهم في العام الماضي أقوام بأنواع من الفتنة في الدين والدنيا ما بين ترك واجبات وفعل محرمات، إما في حق الله وإما في حق العباد، كترك الصلاة وشرب الخمور، وسب السلف وسب جنود المسلمين والتجسس لهم على المسلمين، ودلالتهم على أموال المسلمين وحريمهم، وأخذ أموال الناس وتعذيبهم وتقوية دولتهم الملعونة، وإرجاف قلوب المسلمين منهم إلى غير ذلك من أنواع الفتنة، ثم قال تعالى: { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا } وهذه حال أقوام عاهدوا ثم نكثوا قديما وحديثا في هذه الغزوة، فإن في العام الماضي وفي هذا العام: في أول الأمر كان من أصناف الناس من عاهد على أن يقاتل ولا يفر ثم فر منهزما لما اشتد الأمر.

ثم قال الله تعالى: { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا }، فأخبر الله أن الفرار لا ينفع لا من الموت ولا من القتل، فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون، ولذلك قال النبي : « إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه » والفرار من القتل كالفرار من الجهاد، وحرف ( لن ) ينفي الفعل في الزمن المستقبل، والفعل نكرة، والنكرة في سياق النفي تعم جميع أفرادها، فاقتضى ذلك: أن الفرار من الموت أو القتل ليس فيه منفعة أبدا، وهذا خبر الله الصادق، فمن اعتقد أن ذلك ينفعه فقد كذب الله في خبره.

والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن، فإن هؤلاء الذين فروا في هذا العام لم ينفعهم فرارهم ؛ بل خسروا الدين والدنيا وتفاوتوا في المصائب، والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك في الدين والدنيا حتى الموت الذي فروا منه كثر فيهم، وقل في المقيمين، فما منع الهرب من شاء الله، والطالبون للعدو والمعاقبون له لم يمت منهم أحد ولا قتل ؛ بل الموت قل في البلد من حين خرج الفارون، وهكذا سنة الله قديما وحديثا.

ثم قال تعالى: { وإذا لا تمتعون إلا قليلا } يقول: لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياة قليلة ثم تموتون، فإن الموت لا بد منه، وقد حكي عن بعض الحمقى أنه قال: فنحن نريد ذلك القليل، وهذا جهل منه بمعنى الأية، فإن الله لم يقل: إنهم يمتعون بالفرار قليلا، لكنه ذكر أنه لا منفعة فيه أبدا، ثم ذكر جوابا ثانيا، أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل، ثم ذكر جوابا ثالثا وهو أن الفار يأتيه ما قضي له من المضرة، ويأتي الثابت ما قضي له من المسرة، فقال: { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا }، ونظيره: قوله في سياق آيات الجهاد: { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }، الآية وقوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير }.

فمضمون الأمر: أن المنايا محتومة، فكم من حضر الصفوف فسلم، وكم ممن فر من المنية فصادفته، كما قال خالد بن الوليد - لما احتضر -: « لقد حضرت كذا وكذا صفا، وأن ببدني بضعا وثمانين، ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء ».

ثم قال تعالى: { قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا }، قال العلماء: كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة، فإذا جاءهم أحد قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرج، ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر: أن ائتونا بالمدينة فإنا ننتظركم، يثبطونهم عن القتال، وكانوا لا يأتون العسكر إلا ألا يجدوا بدا، فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة، فانصرف بعضهم من عند النبي ، فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ، فقال: أنت ههنا ورسول الله بين الرماح والسيوف ؟ فقال: هلم إلي فقد أحيط بك وبصاحبك.

فوصف المثبطين عن الجهاد - وهم صنفان - بأنهم:

إما أن يكونوا في بلد الغزاة أو في غيره، فإن كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول أو بالعمل أو بهما، وإن كانوا في غيره راسلوهم أو كاتبوهم: بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة ليكونوا معهم بالحصون أو بالبعد، كما جرى في هذه الغزاة، فإن أقواما في العسكر والمدينة وغيرهما، صاروا يعوقون من أراد الغزو وأقواما بعثوا من المعاقل والحصون وغيرها إلى إخوانهم: هلم إلينا قال الله تعالى فيهم: { ولا يأتون البأس إلا قليلا. أشحة عليكم }، أي بخلاء عليكم بالقتال معكم والنفقة في سبيل الله، وقال مجاهد: بخلاء عليكم بالخير والظفر والغنيمة، وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله، أو شح عليهم بفضل الله: من نصره ورزقه الذي يجريه بفعل غيره، فإن أقواما يشحون بمعروفهم وأقواما يشحون بمعروف الله وفضله، وهم الحساد.

ثم قال تعالى: { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت }، من شدة الرعب الذي في قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النزع، فإنه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره ولا يطرف، فكذلك هؤلاء ؛ لأنهم يخافون القتل: { فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد }، ويقال في اللغة ( صلقوكم ): وهو رفع الصوت بالكلام المؤذي، ومنه ( الصالقة ): وهي التي ترفع صوتها بالمصيبة، يقال: صلقه وسلقه، وقد قرأ طائفة من السلف بها ؛ لكنها خارجة عن المصحف - إذا خاطبه خطابا شديدا قويا، ويقال: خطيب مسلاق: إذا كان بليغا في خطبته ؛ لكن الشدة هنا في الشر لا في الخير، كما قال { بألسنة حداد أشحة على الخير } وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون بوجوه: تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم ؛ فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه وخالفتموهم ؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة.

وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا، وتارة يقولون - أنتم مع قلتكم وضعفكم - تريدون أن تكسروا العدو وقد غركم دينكم، كما قال تعالى: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم }، وتارة يقولون: أنتم مجانين لا، عقل لكم تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم، وتارة يقولون: أنواعا من الكلام المؤذي الشديد، وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي حراص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم، قال قتادة: إن كان وقت قسمة الغنيمة بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطونا فلستم بأحق بها منا، فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق، وأما عند الغنيمة فأشح قوم.

وقيل: أشحة على الخير أي بخلاء به، لا ينفعون لا بنفوسهم ولا بأموالهم، وأصل الشح: شدة الحرص الذي يتولد عنه البخل والظلم: من منع الحق وأخذ الباطل، كما قال النبي : « إياكم والشح ؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا »، فهؤلاء أشحاء على إخوانهم: أي بخلاء عليهم، وأشحاء على الخير أي حراص عليه، فلا ينفقونه، كما قال: { وإنه لحب الخير لشديد }.

ثم قال تعالى: { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا }، فوصفهم بثلاثة أوصاف:

أحدها: أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذه حال الجبان الذي في قلبه مرض، فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف وتكذيب خبر الأمن، الوصف.

الثاني: أن الأحزاب إذا جاءوا تمنوا أن لا يكونوا بينكم ؛ بل يكونون في البادية بين الأعراب يسألون عن أنبائكم: إيش خبر المدينة ؟ وإيش جرى للناس ؟.

والوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا - وهم فيكم - لم يقاتلوا إلا قليلا.

وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس في هذه الغزوة، كما يعرفونه من أنفسهم ويعرفه منهم من خبرهم.

ثم قال تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا }، فأخبر سبحانه أن الذين يبتلون بالعدو، كما ابتلي رسول الله ، فلهم فيه أسوة حسنة، حيث أصابهم مثل ما أصابه، فليتأسوا به في التوكل والصبر، ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها وإهانة له، فإنه لو كان كذلك ما ابتلي بها رسول الله خير الخلائق ؛ بل بها ينال الدرجات العالية، وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا، وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك فيكون في حقه عذابا، كالكفار والمنافقين.

ثم قال تعالى: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما }، قال العلماء: كان الله قد أنزل في سورة البقرة: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }، فبين الله سبحانه - منكرا على من حسب خلاف ذلك - أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يبتلوا مثل هذه الأمم قبلهم ب ( البأساء ): وهي الحاجة والفاقة، و ( الضراء ): وهي الوجع والمرض، و ( الزلزال ): وهي زلزلة العدو، فلما جاء الأحزاب عام الخندق فرأوهم، قالوا: { هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } وعلموا أن الله قد ابتلاهم بالزلزال، وأتاهم مثل الذين خلوا من قبلهم، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما لحكم الله وأمره، وهذه حال أقوام في هذه الغزوة: قالوا ذلك.

وكذلك قوله: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه }، أي: عهده الذي عاهد الله عليه، فقاتل حتى قتل أو عاش، و ( النحب ): النذر والعهد، وأصله من النحيب، وهو الصوت، ومنه: الانتحاب في البكاء، وهو الصوت الذي تكلم به في العهد، ثم لما كان عهدهم هو نذرهم الصدق في اللقاء - ومن صدق في اللقاء فقد يقتل - صار يفهم من قوله: { قضى نحبه } أنه استشهد، لا سيما إذا كان النحب: نذر الصدق في جميع المواطن ؛ فإنه لا يقضيه إلا بالموت، وقضاء النحب هو الوفاء بالعهد، كما قال تعالى: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه } أي أكمل الوفاء، وذلك لمن كان عهده مطلقا: بالموت أو القتل، { ومنهم من ينتظر } قضاءه إذا كان قد وفى البعض، فهو ينتظر تمام العهد.

وأصل القضاء: الأتمام والأكمال: { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما }، بين الله سبحانه أنه أتى بالأحزاب ليجزي الصادقين بصدقهم، حيث صدقوا في إيمانهم، كما قال تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون }، فحصر الأيمان في المؤمنين المجاهدين، وأخبر أنهم هم الصادقون في قولهم: آمنا ؛ لا من قال كما قالت الأعراب: آمنا والأيمان لم يدخل في قلوبهم ؛ بل انقادوا واستسلموا.

وأما المنافقون فهم بين أمرين:

إما أن يعذبهم وإما أن يتوب عليهم، فهذا حال الناس في الخندق وفي هذه الغزاة، وأيضا فإن الله تعالى ابتلى الناس بهذه الفتنة ؛ ليجزي الصادقين بصدقهم، وهم الثابتون الصابرون لينصروا الله ورسوله ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم، ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين ؛ فإن منهم من ندم، والله سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وقد فتح الله للتوبة بابا من قبل المغرب عرضه أربعون سنة، لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها،

وقد ذكر أهل المغازي - منهم ابن إسحاق - أن النبي قال في الخندق: « الأن نغزوهم ولا يغزونا »، فما غزت قريش ولا غطفان ولا اليهود المسلمين بعدها ؛ بل غزاهم المسلمون: ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة.

كذلك - إن شاء الله - هؤلاء الأحزاب من المغول وأصناف الترك ومن الفرس والمستعربة والنصارى، ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام: الآن نغزوهم ولا يغزونا، ويتوب الله على من يشاء من المسلمين الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق، بأن ينيبوا إلى ربهم ويحسن ظنهم بالإسلام وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم، فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولي الأبصار كما قال: { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا }.

فإن الله صرف الأحزاب عام الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصبا: ريح شديدة باردة، وبما فرق به بين قلوبهم، حتى شتت شملهم، ولم ينالوا خيرا، إذ كان همهم فتح المدينة والاستيلاء عليها وعلى الرسول والصحابة، كما كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين فردهم الله بغيظهم، حيث أصابهم من الثلج العظيم والبرد الشديد والريح العاصف والجوع المزعج ما الله به عليم، وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التي وقعت في هذا العام، حتى طلبوا الاستصحاء غير مرة، وكنا نقول لهم: هذا فيه خيرة عظيمة، وفيه لله حكمة وسر فلا تكرهوه، فكان من حكمته: أنه فيما قيل: أصاب قازان وجنوده حتى أهلكهم، وهو كان فيما قيل: سبب رحيلهم، وابتلي به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله، وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه، وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضي حلب: يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى، يوم دخلت مصر عقيب العسكر، واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين، وألقى الله في قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه.

فلما ثبت الله قلوب المسلمين، صرف العدو جزاء منه وبيانا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها، وإن لم يقع الفعل وإن تباعدت الديار، وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغول والكرج وألقى بينهم تباغضا وتعاديا، كما ألقى سبحانه عام الأحزاب بين قريش وغطفان وبين اليهود، كما ذكر ذلك أهل المغازي، فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق، بل من طالعها علم صحة ذلك كما ذكره أهل المغازي، مثل عروة بن الزبير والزهري وموسى بن عقبة وسعيد بن يحيى الأموي ومحمد بن عائذ ومحمد بن إسحاق والواقدي وغيرهم.

ثم تبقى بالشام منهم بقايا سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم مضافا إلى عسكر حماة وحلب وما هنالك، وثبت المسلمون بإزائهم، وكانوا أكثر من المسلمين بكثير ؛ لكن في ضعف شديد وتقربوا إلى حماة وأذلهم الله تعالى، فلم يقدموا على المسلمين قط، وصار من المسلمين من يريد الأقدام عليهم فلم يوافقه غيره، فجرت مناوشات صغار كما جرى في غزوة الخندق، حيث قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها عمرو بن عبد ود العامري، لما اقتحم الخندق هو ونفر قليل من المشركين، كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون، مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين، وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم، وساق المسلمون خلفهم في آخر النوبات، فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات، وبعضهم في جزيرة فيها، فرأوا أوائل المسلمين فهربوا منهم وخالطوهم ؛ وأصاب المسلمون بعضهم، وقيل: إنه غرق بعضهم.

وكان عبورهم وخلو الشام منهم في أوائل رجب بعد أن جرى - ما بين عبور قازان أولا وهذا العبور، رجفات ووقعات صغار وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة لأجل الغزاة ؛ لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا، وثبت بإزائهم المقدم الذي بحماة ومن معهم من العسكر ومن أتاه من دمشق، وعزموا على لقائهم ونالوا أجرا عظيما، وقد قيل: إنهم كانوا عدة كمانات ؛ إما ثلاثة أو أربعة.

فكان من المقدر: أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقي في قلوب عدوهم الرعب، فيهربون لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل ( تيزين ) و ( الفوعة ) و ( معرة مصرين ) وغيرها ما لم يكونوا وطئوه في العام الماضي، وقيل: إن كثيرا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم ؛ بسبب الرفض وأن عند بعضهم فرامين منهم ؛ لكن هؤلاء ظلمة ومن أعان ظالما بلي به، والله تعالى يقول: { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون }، وقد ظاهروهم على المسلمين: الذين كفروا من أهل الكتاب من أهل ( سيس ) والأفرنج، فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم، وهي الحصون - ويقال للقرون: الصياصي - ويقذف في قلوبهم الرعب، وقد فتح الله تلك البلاد، ونغزوهم إن شاء الله تعالى، فنفتح أرض العراق وغيرها وتعلو كلمة الله ويظهر دينه.

فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس، وخرجت عن سنن العادة، وظهر لكل ذي عقل من تأييد الله لهذا الدين، وعنايته بهذه الأمة، وحفظه للأرض التي بارك فيها للعالمين - بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم وكر العدو كرة فلم يلو عن،، وخذل الناصرون فلم يلووا على، وتحير السائرون فلم يدروا من..، ولا إلى..، وانقطعت الأسباب الظاهرة، وأهطعت الأحزاب القاهرة وانصرفت الفئة الناصرة، وتخاذلت القلوب المتناصرة، وثبتت الفئة الناصرة، وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة، واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة، ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة، وأظهر على الحق آياته الباهرة، وأقام عمود الكتاب بعد ميله، وثبت لواء الدين بقوته وحوله، وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق، وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق، فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الأيمان على جهاد أهل الطغيان، ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة وأساسا لإقامة الدعوة النبوية القويمة، ويشفي صدور المؤمنين من أعاديهم، ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم.

(والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. )

قال الشيخ رحمه الله كتبت أول هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده لما رجعت من مصر في جمادى الآخرة، وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد، ثم لما بقيت تلك الطائفة اشتغلنا بالأهتمام بجهادهم وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة، وتحريض الأمراء على ذلك، حتى جاءنا الخبر بانصراف المتبقين منهم، فكتبته في رجب والله أعلم، والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج7وج8.كتاب الإحكام في أصول القرآن ابن حزم{والاخير}

ج7وج8 .كتاب الإحكام في أصول القرآن ابن حزم   ...